كشف التراجع عن مشروع القانون المقدم لمجلس النواب بحظر النقاب فى الأماكن العامة، عن ثقل مهمة دعاة التنوير فى مصر عن القيام بدورهم، وأثبت هذا التراجع المفاجئ وجود قوى خفية فى المجتمع المصرى تقف وبعناد واضح ضد طموحنا فى وجود دولة مدنية حديثة، وإذا كان ذلك يتّفق مع المنطق، وفقاً لما شهدته البلاد من تغلغل نفوذ المتأسلمين فى جميع أحوال البلاد والعباد على مدار ما يقرب من نصف القرن -منذ أوائل سبعينات القرن العشرين حتى الآن- ووفقاً لما صرّحت به صاحبة مشروع القانون، بأن سبب تراجعها جاء حرصاً على عدم حدوث الانقسام داخل المجتمع، ونفيها وجود أى ضغوط عليها للتراجع، وفى رأيى، هذا أضاع فرصة على طريق التحضّر والتنوير وتحرير المرأة من أوصياء الدين، كما يصفهم العالم الجليل الدكتور سعد الدين هلالى، الذى أكد تأييده مقترح منع النقاب فى الأماكن العامة، مشيراً إلى ضرورة التفرقة بين ما هو فقهى وما هو دينى، وقال إن النقاب أمر فقهى، وليس دينياً، يختلف عليه الفقهاء بمختلف الفتاوى، لكن ليس له علاقة بالدين أو العقيدة، وإن 80% من الفقهاء، أقروا أنه مجرد عادة متوارثة، وليست عبادة. ودلل على اختلاف الفقهاء، مشيراً إلى أن الإمام أحمد بن حنبل وبعض الشافعية قالوا إن النقاب واجب، فيما قال بعض المالكية إنه مكروه، وهو يصيب من ترتديه بالغرور والتعالى، وهو تزيد ومغالاة فى الدين.
وحسبما أتوقع أن يتصيد أحد استشهادى بالدكتور هلالى المختلف عليه، رغم أنه فى زمننا هذا أحد أهم المجدّدين للخطاب الدينى، سأستشهد أيضاً بفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر، الذى يؤكد قولاً واحداً فى حديث له على شاشة التليفزيون المصرى -صوتاً وصورة- أن النقاب ليس فرضاً أو سنة، وللمرأة أن تلبسه، أو أن تخلعه، كما أنه ليس مكروهاً أو ممنوعاً، ولا يجب على من ترتديه أن تقول إن ذلك شرعاً، كما على من تخلعه ألا تشير إلى أنه ضد الشرع، وهو أمر مباح، والشريعة الإسلامية تفرق بين الأمر المباح والأمر المطلوب، ولا يتعلق به أمر أو نهى، وبالتالى لا علاقة له بالثواب والعقاب.
إذاً المواجهة مع النقاب المفروض أن تكون أسهل كثيراً عن غيرها من المواجهات، طالما كان هذا رأى الدين بشهادة الإمام الأكبر، لكن الواضح أن الفكر السلفى توغل فى المجتمع، توطئة لتغوله على الدولة نفسها بكل سلطاتها ومقوماتها إذا لاحت له الفرصة، ولنا فى تجربة جماعة الإخوان الإرهابية عبرة، ويبدو أن من بيننا سلفيين، حتى لو لم يدركوا هم ذلك فى أنفسهم، حتى لو كانوا يهاجمون السلفيين، لكنهم يقاسمونهم أفكارهم، خصوصاً فى نظرتهم إلى المرأة.
كان للفيلسوف الألمانى العظيم أوجست كانط، الذى يقف عند قمة التنوير أواخر القرن الثامن عشر مقال عنوانه «جواب عن سؤال: ما التنوير؟» وأطلق خلاله شعار: «كن جريئاً فى إعمال عقلك»، فلا سلطان على العقل إلا العقل نفسه.
وإذا كان «التنوير» قد خسر الجولة، لكنه لم يخسر المعركة. وما زلت أؤكد «التنوير هو الحل».