غادرتُ القطار عند وصولى إلى محطة مصر بقلب العاصمة عائداً من الإسكندرية، ثم أمسكت هاتفى وأوقفت صوت الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب، الذى كان يدندن فى أذنىّ بأغنيته الرائعة «قالوا لى هان الود عليه». على مدار أكثر من ساعتين كنت أستمع إلى باقة مدهشة من أغانى وألحان الأستاذ عبدالوهاب، لكنى اضطررت أن أقطعها فور مغادرة القطار لأبحث عن سيارة تنقلنى من المحطة إلى المنزل. توقف الهدير السماوى الساحر وسكتت الموسيقى النيلية الهادئة العذبة، ثم فجأة قفزت باتجاهى واحدة من إصدارات النفايات الغنائية الجديدة المسماة بـ«المهرجانات»، فكان أحدهم ينشز بكلمات لم أستطع ترجمتها، لكنى أدركت منها عبارة واحدة تقول: «رب الكون ميّسنا بميسة»!
هذا التحول الكبير المفاجئ من الأستاذ عبدالوهاب إلى أحدث صور الفرز الثالث للعشوائيات «حمو بيكا»، دفعنى للتفكير كثيراً للبحث عن إجابة مكتملة الأركان وتفسير شامل لكل ما وصلنا إليه من فشل وانحطاط وتدهور عام ليس على مستوى السماع فقط، لكن على مستوى اللغة والذوق والتفكير والمشاعر والمظهر الخارجى أيضاً.
لا يجب أن نختزل المسألة فى مجرد «غنوة» أو «لون موسيقى» محبب للبعض وغير محبب لآخرين، القضية أكبر من ذلك بكثير. نحن أمام ظاهرة تكشفنا أمام أنفسنا، وتزيح الستار عن مجتمع فقد فنه وثقافته وتحضره وغرس بقدميه فى وحل العشوائية والقبح. فلننظر إلى شوارعنا ووسائل مواصلاتنا والأماكن العامة لتجمعاتنا، سنجد حمو بيكا «طافح» علينا أينما ذهبنا، ليس فقط فيما يسمعه الكثيرون منا، لكن فيما يرتديه الكثيرون أيضاً، وفى لغة الحوار بيننا. حمو بيكا أصبح موجوداً فى الشارع وعلى المقهى وفى الأوتوبيس وعربة المترو وداخل المول التجارى الضخم وعلى صفحات التواصل الاجتماعى، إذا لم يحضر بكلماته الرديئة التى يغنيها وألحانه الهابطة، فهو حاضر بثقافته التى ينتمى إليها وهيئته التى يظهر بها ولغته المشوهة التى يستخدمها.
دعونا نصدق مع أنفسنا، تغيير الموجة من إذاعة «عبدالوهاب» إلى إذاعة «حمو بيكا» هو تغيير لجلد مجتمع بالكامل كان يفهم الجمال وأصبح يجهله على نطاق واسع، كان لديه قدرة على التذوق وأصبح يفتقدها إلى حد كبير، كان منمقاً ومرتباً وسيمفونياً يتحرك على إيقاع منتظم، لكنه أخذ يغرق شيئاً فشيئاً فى مستنقع من العشوائية والقبح والفوضى. وليس المهم إن كان ذلك قد حدث بفعل فاعل أو بمحض صدفة، لكن المهم أنه حدث.
سيمتعض البعض قائلاً إنها «مسألة أذواق»، وسيبرر آخرون هذه النكسة المجتمعية بأننا فى عصر «الأسواق المفتوحة»، وأن كل بضاعة تجد زبائنها فهى صالحة!.. والحقيقة أن هذه الادعاءات والمبررات إنما نحاول أن نكذب بها على أنفسنا، ربما لأننا لا نصدق ما وصلنا إليه، أو ربما لأننا أصبحنا جزءاً لا يتجزأ من القبح، نتحدث بلغته ونفكر بعقله ونبحث له عن غطاء أخلاقى ليستمر ويبقى وينتشر.
علينا أن ننظر إلى المرآة بدون مساحيق تجميل لنرى كيف كنا وكيف أصبحنا. وعلينا أيضاً أن نفهم أن الفن أحد المعايير الرئيسية لقياس قوة وصلاحية المجتمعات والحضارات والدول، والأمة التى تسعى جاهدة للنهوض ولدى أبنائها رغبة حقيقية فى التقدم، عار عليها أن تقبل بهذا السقوط من زمن الأستاذ «عبدالوهاب» إلى زمن الواد «حمو بيكا»، وعار عليها أن تبرره أو تتكيف معه.
فلنصارح أنفسنا، ونرفض القبح.. هذا أفضل كثيراً من أن نضع رؤوسنا فى الرمال!