فى مقال الأسبوع الماضى، تناولت الحلقة النقاشية التى نظمها «منتدى شباب العالم» فى نسخته الثانية بشرم الشيخ، التى كانت بعنوان «مواقع التواصل الاجتماعى، هل هى للتواصل أم للتباعد؟». وطرحت فيه الزاوية التى شاركت بها فيما يخص الهواجس الأمنية، فى مقابل تلك الشبكات الإلكترونية التى حقق منها الإرهاب والتطرف مكاسب مؤكدة. وإن ظلت مسألة تضييق المساحات اللانهائية أمام هذا النشاط «المؤثم» والخطير، مازالت تشكل نفسها ولم تقف عند محطة سيطرة مستقرة بعد، إلا أن تفكيراً للمرة الثانية فى إطار المنع أو التقييد لحركة التدفق على مسار تلك الشبكات، هو ضرب خيالى يضيع الوقت والجهد معاً.
انصبّ تركيز مداخلتى فى الحلقة النقاشية على آلية صناعة متطرف عن بُعد، ومن ثم تحوله ليصير إرهابياً، دون أن ينتقل من مكانه. فقد ثبت أمام الأجهزة الأمنية الأوروبية، أن عدداً تجاوز الـ«30 عنصراً» ممن شاركوا فعلياً فى تنفيذ عمليات إرهابية على أراضى دول أوروبية «فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، السويد.. وغيرها» لم يغادر أراضى تلك الدول ولو لمرة واحدة، وأن مسار انخراطه داخل صفوف تنظيمات إرهابية شهيرة «داعش نموذجاً»، منذ بداية تجنيده مروراً بنزوله إلى الشارع، وصولاً إلى إتمام عمل إرهابى، قد جرى بالكامل على أثير تلك الشبكات الإلكترونية.
هذا يشكل متغيراً شديد الخطورة، بدأت التنظيمات الإرهابية، فى طبعتها الجديدة، تكتسب مهارته، بعد أن راقبت لسنوات حجم التأثير الهائل الذى سبقتها فيه كيانات أخرى استأثرت بعملية تمهيد الأرض الإلكترونية من خلال غرس بذور التطرف والكراهية، مستخدمة آليات صناعة الجبهات والجبهات المضادة. الأكثر براعة فى هذا المضمار، من واقع التجربة الأحدث التى نعيش فصلاً متقدماً من فصولها اليوم، هم «جماعة الإخوان المسلمين». ويأتى خلفهم مباشرة فى طابور الجدارة الإلكترونية، فصائل عدة من الكيان الفضفاض المسمى، اختصاراً وتعميماً، بـ«السلفيين».
بمراقبة أو متابعة بسيطة، نلحظ سريعاً مسار الخطاب الإخوانى والسلفى فى طريقة اصطناعه لتلك الحالات من الاحتقان. فهو لا يتحدث، ولو مرة واحدة، عن الإرهاب. ربما يترك المساحة لبعض محسوب بدقة من مناصريه كى يتبنى طرحاً عنيفاً إزاء بعض من القضايا، مثلما كان الحال فى مصر بعد ثورة 30 يونيو 2013، خاصة بعد القبض على قيادات التنظيم، وإخضاعهم للمساءلة القضائية. لكن فى الإجمال، ووفق خطاب عالمى الطابع، يقصر الأمر على «الكراهية، والتطرف»، حيث يتشارك فيه فضاء لساحات عديدة وبلدان متنوعة، وحتى لا يُضبط بالجرم المشهود. يحقق له ذلك قدرة أوسع على التمدد، متسلحاً بذرائع عدة يمكن تفهمها من قبَل مجتمعات أبعد، ويضمن من خلالها أيضاً لآخرين، القدرة على تبنى الخطاب والترويج له، وتقديم دعم غير مباشر لمساراته.
المثال الذى جرى تطبيقه على أرض الواقع فى مصر، وفق تلك الآلية، نفذ خلال شهور ثورة يونيو 2013، وفيها جرى تدفق هائل لموجات إلكترونية، تصاعدت أثناء اعتصام «رابعة» و«النهضة»، تتبنى وتحرض ضد المسيحيين باعتبارهم مكوناً شعبياً ظاهراً داخل أحداث الثورة، التى من وجهة نظر «الذريعة المصطنعة» أطاحت بالحكم الشرعى، لصالح آخرين، يحق حينها لـ«الجموع» أن تمارس ضدهم عمليات انتقام. ومن ثم؛ جرى تلقائياً الاعتداء على كنائس الصعيد، دون تكليف مباشر لأشخاص بعينهم، وربما من دون تخطيط مسبق وجّه للهدف بصورة محددة. هى مظلة عامة وجامعة نجحت فى الارتفاع بسقف الاحتقان، وجعلت من الانتقام مخرجاً حتمياً لهذه الصورة من التدفقات والمؤثرات الإلكترونية.
هذا نموذج للتأثير الجمعى، لكن هناك -فى ذات الوقت- ما يمكن تسميته بـ«النشاط النوعى» الإلكترونى، على وزن العملية الإرهابية النوعية التى تحشد لها التنظيمات الإرهابية، خطة محكمة الأركان وهدفاً ثميناً وآلية تنفيذ وعادة توقيتاً بعينه، كى تحصد من ورائها مكاسب واسعة وحجماً معتبراً من التأثير. أشهر تلك النماذج التى تابعها العالم بأسره، هى الرسائل المصورة التى بثها تنظيم «داعش» على ذات الأثير الإلكترونى، مثل عملية اغتيال الطيار الأردنى الكساسبة على الصورة البشعة التى ظهرت عليها، ومن بعدها المصريين الذين جرى قتلهم على السواحل الليبية على نسق لا يقل صدمة أو بشاعة.
الذى يمكن الانتباه إليه فى تلك النوعية غير الاعتيادية من التدفقات، أن قرار التنفيذ والسيناريو الذى تمت به وتكلفة إنتاجها، فضلاً عن مخاطرها، يعكس قدر الأهمية الذى يستهدفها وما ينتظره التنظيم. حتى إنه للمرة الأولى، إزاء هاتين العمليتين على وجه الخصوص، أجرت العديد من المنصات المتخصصة تحليلات فاحصة لحساب التكاليف الباهظة، لإنتاج مثل تلك المنتجات الإعلامية. مع النظر إلى أنها لن تذهب إلا لطريق واحد، يمكنها من خلاله حصد المكاسب المطلوبة للتنظيم الإرهابى، على صعيد جمهوره القلق فى بعض الأحيان، وآخرين ممن ينتظر النفاذ إليهم، ليس على سبيل التجنيد وحده، إنما أيضاً برسائل مزدحمة بالمؤثرات والمحفزات، والقدرة على العبث باليقين.
الطريق الوحيد هنا، أو ما يمكن اعتباره ساحة معتمدة، هو الشبكات الإلكترونية التى، بتلقائية تدفقاتها، ستتكفل بإتمام المهمة. هذا ما سميته فى مقالى السابق، «الانكشاف المحير» فى مقابل تلك الشبكات الهائلة. واليوم أجد أننا واقعياً فى قلب جحيم تلك المؤثرات الإلكترونية، حيث تكتسح موجات الخطر كافة الأنماط الإيجابية التى جذبتنا إليها تلك الشبكات بداية. وأصبحت مهمة إزاحة ركام التهديد بأشكاله وأنماطه المتنوعة، من أجل الوصول إلى حجم استفادة إيجابى مما يمكن الوثوق بمقصده، تستلزم جهداً كبيراً يبذله البعض منفرداً، ممن يتحلون بدرجة من الوعى تساعدهم على الوصول إلى مبتغى آمن.
غير ذلك يبقى المشهد أكثر التباساً وصخباً، بالمؤثرات القادرة على صنع جحيم حقيقى، حاضر فعلياً من حولنا ومن بين أيدينا، حتى ونحن نتناول قهوة الصباح فى استرخاء المتابعة اليومية، لما يشغل اهتمامنا حقيقة. أو أثناء صناعة اهتمام زائف، يلتف بغتة حول أعناقنا!