يدرك الرئيس «عبدالفتاح السيسى» جيداً أن الإرهاب لن يتوقف فى مصر إلا بتجفيف منابعه الفكرية، وهذا لن يتم إلا بمراجعة التراث الدينى المفخخ بفتاوى لا تمت للإسلام بصلة، والنصوص التراثية التى تبرر كل أعمال القتل والإرهاب.
لقد كتبت مراراً عن مطالبة الرئيس بـ«ثورة فكرية»، وفى كل مرة أستمع للرئيس أشعر بالقهر ونحن عاجزون عن وقف طوفان الشذوذ الفكرى الذى يغرق البلاد فى التعصب ونفى الآخر، ويؤهل الشباب للتجنيد فى صفوف الإرهاب بغسل عقولهم، ويستهدف «المثقفين» تحديداً بدعاوى الحسبة وقانون «ازدراء الأديان» فى محاولة لاغتيال العقل المصرى.. وتحويل الشعب إلى فرق متناحرة من المجاذيب والدراويش!.
كان الرئيس يوجه خطابه إلى الشعب بأكمله، فى وجود شيخ الأزهر الدكتور «أحمد الطيب» وكبار رجال الدولة، فوجه دعوته قائلاً: (إننى أدعو علماءنا وأئمتنا ومثقفينا إلى بذل المزيد من الجهد فى دورهم التنويرى، دعونا نستدعى القيم الفاضلة التى حث عليها الإسلام ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم والتى تنادى بالعمل والبناء والإتقان، لنواجه بها أولئك الذين يدعون إلى التطرف والإرهاب).
لكن الحقيقة المرة أن «العلماء والمثقفين» ليسوا فى خندق واحد ضد التطرف والإرهاب، بل هم فى حالة «خصومة»، إذا جاز التعبير، فبعض العلماء كل همهم القضاء على تيار الاستنارة بكل الطرق وأولها الاغتيال المعنوى بتهم التكفير المزيفة، ومنهم للأسف من ينتمى لمؤسسة الأزهر نفسها (التى لا ينطق من ينتمى إليها إلا بموافقة الإمام الأكبر)!.
وبعض هؤلاء أهدر دماء المسيحيين بدم بارد، وترك لجماعات الإرهاب المسلحة مهمة تفجير الكنائس واغتيال القساوسة، بعدما منحه «ترخيص شرعى بالقتل».. ولم يحاسبهم أحد!.
أشعر أحياناً أننى أكرر ما كتبته كثيراً، وأننى أصرخ فى الصحراء، وأنه كما قال الرئيس: (من دواعى الأسف أن يكون من بيننا من لم يستوعب صحيح الدين وتعاليم نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، فأخطأ الفهم وأساء التفسير، وهجر الوسطية والاعتدال، منحرفاً عن تعاليم الشريعة السمحة ليتبع آراء جامحة ورؤى متطرفة، متجاوزاً بذلك ما جاء فى القرآن الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من حرمة النفس، وقدسية حمايتها وصونها من الأذى والاعتداء).
هؤلاء سبق أن قال عنهم الرئيس، فى منتدى شباب العالم الثانى، (إزاى تقنع أصحاب العقول والرأى والمعنيين بهذا الأمر إن فيه عنده مشكلة حقيقية فى خطابه وفهمه للدين اللى بيتعامل بيه فى هذا العصر).
والقضية فى رأيى ليست «اقتناع» بقدر ما هى صلف وتعنت، هم يعلمون بالأخطاء الموجودة فى كتب التراث، لكنهم يعتبرون المساس بها أو نقدها تهديداً مباشراً لمصالحهم ونفوذهم وسطوتهم على أدمغة البشر ووسائل الإعلام ومصادر التبرعات، ولهذا أضفوا قدسية مزعومة على «البخارى ومسلم» لأنها تمنحهم نفس الهالة من القدسية لتصبح لديهم حصانة: «لحوم العلماء مسمومة»!.
لعلها المرة الأولى التى يدعو فها الرئيس تحديداً (لإعادة قراءة تراثنا الفكرى، قراءة واقعية مستنيرة، نقتبس من ذلك التراث الثرى ما ينفعنا فى زماننا ويتلاءم مع متطلبات عصرنا وطبيعة مستجداته).. لكننى لا أتوقع أى استجابة من العلماء الأفاضل والأئمة.. لأنهم قرروا واختاروا أن يحكمونا بآراء الفقهاء وليس بالقرآن والسنة.. وأشعلوا حرباً مفتعلة بين التراث والتنوير.. وأسقطوا من حساباتهم أن المسائل الفقهية قابلة للتجديد والتطوير بينما المسائل العقائدية ثابتة.
لقد ثبت بالأدلة الواقعية أن علماء الحاضر إذا ما قرروا الاجتهاد يأخذون بأشد الآراء الفقهية تشدداً، (كما حدث فى موضوع الطلاق الشفهى)، وأن أقصى ما قدموه للبشرية هو عدم تكفير «داعش» لتحتل الأوطان وتستعبد البشر بفتح أسواق النخاسة، بل وحاولوا تبرير الرق واستقدامه لمصر حتى استوطنت «داعش» فى سيناء بفتاواهم القاتلة من الجهاد إلى ملك اليمين.. فإن شاء المجتمع الدولى محاكمة المتهم بوضع «التأصيل النظرى» للإرهاب.. سيتهم الفاعل بارتكاب جرائم ضد الإنسانية!.
لقد دعا الرئيس «السيسى» إلى (إلحاق شباب العلماء والدعاة بالأكاديمية الوطنية لتدريب وتأهيل وإعداد القادة، حتى يختلطوا بزملائهم، ويتعلموا تطبيق العلوم الدينية بالشكل الصحيح، وذلك فى إطار سعى الدولة لتأهيل وتدريب الشباب، موضحاً أنه فى ختام تلك الدورات التدريبية، ستتم مناقشتهم حول مدى استفادتهم منها).. لكن هناك آلافاً من كبار العلماء يعلنون أفكارهم التكفيرية فى الفضائيات، وهناك أيضاً للأسف ملايين الشباب غيرهم يتعرضون للغزو السلفى والفكر التكفيرى فى القرى والنجوع.
تصحيح الخطاب الدينى يبدأ من قمة هرم «السلطة الدينية» وليس من القاعدة، فكلهم تابعون وخاضعون لهيئة عليا ورجل واحد.. إذا ما آمن بضرورة تنقية التراث الدينى من الأفكار الدموية.. ساعتها فقط سوف تتحول الجيوش التى تزحف خلفه وتسبح باسمه، لتسبح باسم الواحد الأحد وتفك قبضتها عن رقاب البشر.