إذا كان الفقيه «الجعد بن درهم» عاش مؤمناً بقضية «خلق القرآن» ودفع حياته ثمناً لسعيه نحو تجديد الفكر الدينى فى العصر الأموى، فقد انعكس الحال مع الإمام أحمد بن حنبل، الذى أنكر مسألة خلق القرآن إنكاراً كاملاً أمام تبنّى عدد من الخلفاء العباسيين -مثل المأمون والمعتصم- لها. ليس بمقدور أحد أن ينكر العطاء الفقهى للإمام أحمد، لكن موقفه من مسألة «خلق القرآن» ورفضه الباتّ لسعى الحُكم العباسى إلى تجديد الفكر الدينى للأمة عكس قدراً لا بأس به من التشدد والتصلب، بل والتناقض أيضاً.
تمسَّك الإمام أحمد تمسكاً شديد الصلابة بفكرة «أزلية القرآن» وأنه ليس مخلوقاً أو محدثاً، ولم يلِن أمام سجن أو جَلد. وتذكر كتب التراث هذا الموقف للفقيه بأعلى درجات الاحتفاء، وتعرض بقدر كبير من التبجيل المناظرات التى خاضها «ابن حنبل» دفاعاً عن وجهة نظره المنكرة لمسألة خلق القرآن. وحقيقة الأمر أن المتأمل لأغلب هذه المناظرات يلحظ عدة أمور عجيبة. أولها أن الحوارات بدت وكأنها كانت من طرف واحد، هو طرف الإمام «ابن حنبل»، وثانيها أن هذه الحوارات عكست قدرة الفقيه على إفحام خصومه من أقصر الطرق، وثالثها عدم الالتفات إلى ما فى الخطاب الدفاعى الذى قدمه «ابن حنبل» للذود عن وجهة نظره من تناقضات.
من أشهر المناظرات التى أدارها «ابن حنبل» حول خلق القرآن تلك التى جمعته مع ابن أبى دؤاد المعتزلى.. قال «ابن حنبل» فى واحدة منها أمام الخليفة المعتصم:
- «ابن حنبل»: قمت فى نصف الليل فتوضأت للصلاة، وصليت ركعتين، فقرأت فى ركعة «الحمد لله»، و«قل أعوذ برب الناس»، وفى الثانية «الحمد لله» و«قل أعوذ برب الفلق»، ثم جلست وتشهدت وسلمت، ثم قمت فكبرت وقرأت «الحمد لله» وأردت أن أقرأ «قل هو الله أحد»، فإذا القرآن مسجّى ميتاً، فغسلته وكفنته وصليت عليه ودفنته.
- المعتصم: ويحك يا أحمد، والقرآن يموت؟.
- «ابن حنبل»: فأنت كذا وتقول إنه مخلوق، وكل مخلوق يموت.
- المعتصم: قهرنا أحمد.. قهرنا أحمد.
هذه المحاورة وغيرها لا تسجل ردوداً ذات بال لأبى دؤاد المعتزلى، وكأن المناظرة تمت من طرف واحد هو طرف «ابن حنبل»، وتعكس شعوراً بالإفحام تولَّد لدى الخليفة من مقالة الفقيه (قهرنا أحمد). وحقيقة الأمر أن «ابن حنبل» اعتمد على تشبيه مجازى فى الدفاع عن وجهة نظره، وهو دفاع يدعم المفاهيم التى أتى بها مَن قالوا بخلق القرآن ولا ينفيها. فكل ما ردده هؤلاء أن الآيات الكريمة التى تتحدث عن يد الله وبصر الله وسمع الله وكلام الله لا بد أن تُفهم على سبيل المجاز. ويعكس التشبيه الذى دافع به «ابن حنبل» عن وجهة نظره قفزاً عن العديد من الآيات القرآنية. فالقرآن الكريم يصف نفسه بالذِّكْر المُحدَث فى قوله تعالى: «مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ». لقد أراد «ابن حنبل» الدفاع عن أزلية القرآن بالتشبيه الذى ساقه بموت القرآن وتكفينه والصلاة عليه، ولست أدرى كيف يستقيم هذا الدفاع مع المعنى المباشر قطعى الدلالة الذى تحمله الآية الكريمة التى تقول: «كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ»؟.