منذ النصف الثانى من خمسينات القرن الماضى وحتى الآن، وحكوماتنا المتعاقبة فى حيرة من أمرها لإيجاد وسيلة عملية للسيطرة على زيادة أعداد السكان أو بالأصح «الانفجار السكانى» الذى أوصل تعدادنا إلى أكثر من 104 ملايين مواطن -«قبل أن تنتهى من قراءة السطور التالية»- إذ سيضاف إلى هذا التعداد عدد من المواليد الجدد خلال وقت قراءتك لها..! باعتبار أن كل 15 ثانية تعلن «صرخات مولود» أن وافداً جديداً قد قدُم إلى الحياة ليشكل رقماً ضمن 2٫5 مليون طفل يولد سنوياً، ليقارب هذا الرقم من تعداد «دولة كاملة»..!
من «حسنين ومحمدين».. وشعار تحديد النسل وبعده «تنظيمه» بعد أن أثار الأول حفيظة العقل الجمعى للمواطنين وقتها.. وبين إضافة تعبير «والسكان» إلى اختصاصات وزارة الصحة.. واعتبار أن هذه القضية تمثل أمناً قومياً لمصر.. فشلت كل جهود الحكومات المتتالية طوال هذه السنوات وحتى الآن فى تحجيم المخاطر التى نواجهها بسبب ارتفاع معدلات زيادة المواليد، التى تعادل مخاطر الإرهاب وربما تفوقها بعد أن تحولت إلى «غول» يلتهم كل جهود الدولة، وتنعكس تأثيراتها السلبية على مواردها وتشكل تهديداً مرعباً للجهود المبذولة لاستكمال برنامج الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى فى المرحلة المقبلة، وهو ما يمكن إعادتنا للمربع صفر، الأمر الذى دفع الرئيس السيسى إلى تكرار تحذيراته بأن الزيادة السكانية تمثل تحدياً كبيراً أمام الدولة المصرية، وإنه إذا استمر هذا الوضع لن يكون هناك أمل أو أى تحسن للواقع الذى نعيشه.
كثيرة هى تلك المخاطر التى تتفرع عن الزيادة السكانية ولعل أخطرها يتمثل فى أننا وبأيدينا نزرع «قنابل موقوتة» أسفل كبارى القاهرة الكبرى.. وفى حدائقها العامة إن وجدت.. وفى مداخل عماراتها تحت الإنشاء.. ومخازن متاحفها التى تسمى محطات القطارات، بعد أن فرضت ظروف ما كانت تسمى أسرهم على أكثر من 3 أو 4 ملايين طفل الإقامة الجبرية فى كل هذه المواقع، ليمثلوا بؤرة تهديد لمجتمع أصبح فى غير حاجة لمزيد من أسباب تهديده!!
قبل عدة سنوات خرج علينا المجلس القومى للطفولة والأمومة -وقتها- بدراسة فجرت الأزمة.. زلزلت كيان المجتمع.. صرخة انطلقت بأن هناك أكثر من مليونى طفل مشرد -وبالتأكيد فقد تضاعف هذا العدد الآن- يهيمون على وجوههم فى الشوارع ويعيش -إذا كان هذا التعبير يطابق الحالة التى يعانى منها- 60% منهم فى محافظات القاهرة الكبرى.. ويبدو من ذلك الوقت أن المجلس قد اقتنع بأنه قد أدى دوره كاملاً بمجرد عقد مؤتمر صحفى أو ندوة لإعلان هذا الإحصاء واكتفى بتفجير تلك المأساة دون أن يتحرك بفاعلية لإعادتهم إلى المجتمع مرة أخرى، على الرغم من أن تلك الظاهرة كانت ملحوظة فى الشوارع وعند إشارات المرور لتفضح مأساة هؤلاء الأطفال الذين يعتبرون ضحايا إقدام البعض على إنجاب أطفال لا تستوعب إمكانياتهم الاقتصادية تربيتهم، فيدفعونهم إلى الشوارع ليمدوا أيديهم للعابرين فى الشوارع أو لقائدى السيارات فى إشارات المرور باعتبار أن ذلك أسهل الطرق للحصول على المال..!
شظايا هذه المأساة ترتشق فى صدور العديد من الجهات.. رجال أعمال اكتفوا بما يحققونه من أرباح دون أن يلتفتوا إلى حقيقة دورهم الاجتماعى فى مواجهة قضايا المجتمع.. جمعيات ومؤسسات عدة ارتاحت لموضة تسميتها مؤسسات المجتمع المدنى واكتفت بصورة تنشر فى صفحات الاجتماعيات بالصحف لندوة أو اجتماع يضم سيدات أعمال وصفوة المجتمع.. كيانات حزبية غرقت فى مشاكل وراثة الزعماء واقتسام المناصب القيادية.. جهاز قومى للشباب حصر اهتماماته على شريحة واحدة.. فقطاع الشباب لا يقتصر فقط على هؤلاء المنتظمين فى الجامعات والمعاهد العليا.. وقطاع الطلائع ليسوا هم فقط أطفال المدارس فكل هؤلاء لديهم الحد الأدنى من الحياة: أربعة جدران حتى وإن كانت آيلة للسقوط فى مبان أطلق عليها تجاوزاً مدارس.. أو قاعات مكتظة بالآلاف من الطلاب سميت بمدرجات جامعية.. وأسرة وإن كان مفردات قاموس الحياة اليومية لأفرادها لا تعرف سوى كلمة المعاناة.
وإذا كان مجلس النواب قد بدأ فى التحرك لمواجهة الأزمة من خلال إعداد عدد من التشريعات التى تسهم فى خفض معدلات الزيادة السكانية غير أن هذه التشريعات يجب ألا تغفل صياغة عقوبات واضحة لمن يسمى نفسه «أباً» وهو يلقى بطفله فى الطريق، خاصة إننا كمجتمع نعاقب من يخالف إشارة للمرور بينما نقف مكتوفى الأيدى أمام من يلقى طفله فى الطريق العام؟!.. فأطفال الشوارع ظاهرة تستوجب علينا جميعاً البحث عن أسلوب جديد للتعامل معها بعيداً عن تخشيبة الأحداث فى أقسام الشرطة أو إصلاحية للأحداث تكاد تقترب من أن تكون مدرسة لتعليم فنون الإجرام حتى بعد أن أبدلت اسمها إلى دار التربية.!!
وإذا كانت بعض الأصوات يحلو لها التشدق بأن الزيادة السكانية التى نشكو من تفاقمها تمثل ثروة قومية إذا أحسن استخدامها ويشيرون إلى الصين، فإن الرد على ذلك أن ذلك التنين الأصفر ذاته قد اضطر خلال الفترة من عام 1978 وحتى عام 2015 إلى اتباع سياسة لحرمان الطفل الثانى من كافة الخدمات التى تقدمها الدولة من تعليم ورعاية صحية بل وحتى من كافة حقوقه السياسية سواء الترشح أو التصويت فى أى انتخابات..! فهل ننجح هذه المرة؟!
اعتباراً من الغد ولمدة يومين كاملين سيتوج العالم المصرى الدكتور جمال مصطفى السعيد، أستاذ الجراحة وجراحة الأورام بكلية طب قصر العينى، بأعلى تقدير علمى فى مجمل دول الاتحاد الأوروبى بإلقاء الكلمة الافتتاحية للمؤتمر الدولى الثانى للأمراض السارية فى العالم الذى يعقد بالعاصمة الإسبانية «مدريد» ورئاسة جلسات المؤتمر فى يومه الثانى والأخير وتقييم الأبحاث العلمية التى ستقدم للمؤتمر لاختيار أفضلها والتوقيع على شهادات التقدير التى ستمنح للفائزين.. ليرتفع علم واسم أغلى اسم فى الوجود أمام دول الاتحاد الأوروبى.. ولك يا أحلى اسم فى الوجود ولأبنائك ولمستقبلك السلامة والازدهار.