عندما ظهر مفهوم «الخليفة» لأول مرة فى حياة المسلمين كان يعبر عن السلطان الأعظم الذى يجمع تحت مظلته كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، تماماً مثلما كان يخضع المجوس لكسرى فارس والروم لقيصرهم. لم يكن لقب خليفة يختلف حينذاك عن لقب إمبراطور، وحينما أنشأ التتار دولتهم خلع حاكمهم على نفسه لقب الخاقان الأعظم أو سلطان الأرض. وحقيقة الأمر أن المسلمين بعد وفاة النبى لم يعرفوا التجمع تحت راية واحدة إلا فى عهد عمر بن الخطاب. فقد قضى أبوبكر خلافته مجتهداً فى إخضاع القبائل العربية التى أبت طاعته بعد وفاة النبى فيما أطلق عليه «حروب الردة»، وكان من بين من حاربهم أبوبكر مجموعة ضخمة ممن أعلنوا ولاءهم للإسلام، لكنهم رفضوا طاعة أبى بكر فى دفع الزكاة.
وعصر عثمان كما تعلم انتهى بمحنة اغتياله بعد أن خرج مجموعة من أهل الأمصار على سلطته وحاصروا داره ثم تسوروها وقتلوه. كان من بين هؤلاء مواطنون من البصرة والكوفة واليمن ومصر. وفى عصر على بن أبى طالب انقسم المسلمون بين من أعلنوا ولاءهم لعلى ومن خرجوا عليه وتابعوا معاوية بن أبى سفيان فى الشام. نخلص من ذلك إلى أن فكرة الخليفة الذى يتحلق حوله المسلمون لم تكن حاضرة إلا فى فترات نادرة من رحلة الخلافة الراشدة، مثل فترة الحكم العمرى. وبعد انتهاء هذه الحقبة من تاريخ المسلمين دخلوا فيما هو أدهى وأمر. فخلال العصر الأموى كان من بين المسلمين من يرى خليفته فى الأئمة الذين تناسلوا من على زين العابدين بن الحسين بن على (الشيعة)، وكان هناك من يرى خليفته فى الأمير الذى يقود الخوارج الذين خاضت الدولة ضدهم حروباً لم تتوقف. توسع الأمر أكثر وأكثر خلال الحكم العباسى، وأصبح مفهوم الخليفة المسلم كحاكم ينضوى تحت رايته كل المسلمين فى خبر كان. فما أكثر «الخلافات» التى ظهرت تحت عباءة الخلافة العباسية، كما حدث خلال عصر الدولة البويهية، وعصر الدولة الفاطمية فى مصر، وقد كان الحكام الفاطميون يلقبون أنفسهم بالخلفاء.
ومع سقوط الدولة العباسية وظهور دولة المماليك فى مصر تحولت الخلافة إلى مجرد شكل أو حلية يحتفظ به أمراء المماليك لمجرد الوجاهة السياسية وإحياء الذكرى البائدة، كما حدث مع السلطان بيبرس البندقدارى الذى رسّم أحد أبناء الأسرة العباسية خليفة، جاء من بعده خليفة ثم خليفة، وجميعهم كانوا مجرد مناظر ليس لهم من الأمر شىء، ومن حينها أصبح مصطلح الخليفة شكلاً خالياً من المعنى. وعندما سيطر العثمانيون الأتراك على العالم الإسلامى كان الجانب الشكلى للمفهوم قد ترسخ تماماً، فلم يخضع أحد للعثمانيين طيلة القرون التى احتضنت دولتهم. ومصر وما شهدته من تجارب انفصالية وصلت فى عصر محمد على حد الاستعداد للاستيلاء على اسطنبول خير نموذج على ذلك.
واليوم أصبح مصطلحا «الخليفة والخلافة» مجرد مفردات تاريخية لا تعنى شيئاً ذا بال إلا لمن يعلنون من حين إلى آخر أنهم خلفاء للمسلمين من قيادات الجماعات الإرهابية، وقد أصبح حالهم مثيراً للسخرية تماماً مثل من يخرجون علينا من حين إلى آخر ويدعون النبوة. فالمفردة التى قفزت فى الخطاب الدينى عشية وفاة النبى تغيرت معانيها واضمحلت دلالاتها عند الانتقال من فترة زمنية إلى أخرى، ولم تعد تستدعى من الذاكرة سوى ذلك الحى التاريخى الذى سكنه فلول خلفاء بنى العباس عندما جاءوا إلى مصر.. «حى الخليفة» بالقرب من القلعة بالقاهرة.