غيلان الدمشقى واحد من أبرز المفكرين المجدِّدين داخل دولة بنى أمية. فخلافاً لما كان سائداً فى المجتمع الأموى من إقرار بمبدأ أن الإنسان مُجبَر على أفعاله، وأنه مُسيَّر فيها بمشيئة الله تعالى، قال «غيلان» بحرية الإرادة الإنسانية، وأن الإنسان يختار أفعاله، ويحاسب عليها أمام الله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، لأن «جبرية» الإنسان على أفعاله تتناقض مع عدل الله تعالى، لأنه يحاسب الإنسان على ما فرضته عليه مشيئته، وهو أمر لا يقبله عقل ولا وجدان مسلم يؤمن بعدل الله، ورحمة الله بعد ذلك تَسع كل شىء، وهى قادرة على أن تشمل أصحاب المعاصى.
دفع «غيلان» حياته ثمناً للجهر بهذه الفكرة فى مجتمع يؤمن بالجبرية، ويعتقد أن الإنسان ليس له إرادة فردية يختار بها، بل مجبور على أفعاله، ومسلَّط على ما يفعل، وهو محاسَب بعد ذلك أمام الله، إن شاء عذَّبه وإن شاء غفر له. ويشير «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» إلى أن «غيلان» أخذ أفكاره عن «معبد الجهنى»، وهو أول مَن تكلم فى القدر وأنكر جبرية الإنسان على أفعاله. ويقال -كما يذهب «ابن كثير»- إنه أخذ ذلك عن رجل من النصارى من أهل العراق يقال له «سوس»، وأخذ «غيلان» القَدر من «معبد»، وقد كانت لـ«معبد» عبادة وفيه زهادة، وهو من الفقهاء الذين انضموا إلى التمرد الذى قاده «عبدالرحمن بن الأشعث» ضد الدولة الأموية أيام الخليفة عبدالملك بن مروان، وهو التمرد الذى واجهه بشراسة الحجاج بن يوسف الثقفى، وقد تم القبض على «معبد» بعد إخماد التمرد ومصرع عبدالرحمن بن الأشعث، ويقول «ابن كثير» إن «الحجاج» تسلم «معبداً» فعاقبه عقوبة عظيمة بأنواع العذاب ثم قتله، وقال سعيد بن عفير: بل صلبه عبدالملك بن مروان فى سنة ثمانين بدمشق ثم قتله.
عبر استقراء الخط الواصل بين «معبد الجهنى» و«غيلان الدمشقى» تستطيع أن تتبين الأسباب التى أدت بحكام الدولة الأموية وولاة أمرها إلى اتخاذ موقف حاسم من دعاة القدرية المؤمنين بالإرادة الفردية وحرية الإنسان فى اختيار أفعاله، من أمثال «غيلان» و«معبد». فالمؤمنون بفكرة «حرية الإنسان» هم الأكثر تمرداً والأجنح إلى مواجهة المظالم التى تقع من أولِى الأمر، خلافاً للمؤمنين بالجبرية، والقائلين بأن الإنسان مسلَّط على أفعاله، وبالتالى فليس من حقهم التمرد على والٍ أو خليفة سلَّطه الله عليهم بإرادته ومشيئته. ينقل «ابن كثير» أن الحسن البصرى حذَّر مَن حوله مِن معبد الجهنى بعد مشاركته فى التمرد الذى قاده عبدالرحمن بن الأشعث ضد عبدالملك بن مروان والحجاج بن يوسف الثقفى، وكان يقول لهم نصاً: «إياكم ومعبداً فإنه ضال مُضل». وتقص علينا كتب التاريخ أنه لما قاد «ابن الأشعث» التمرد ضد عبدالملك بن مروان والحجاج «فزع العلماء إلى الحسن البصرى وقالوا له: ماذا تفعل.. وأنت ترى الحجاج يسفك دماء المسلمين دون رحمة أو شفقة، ويقتل أعداءه دون قضاء أو محاكمة، وينفق ثروات المسلمين فيما يغضب الله؟. فقال لهم: لا تقاتلوا إلا إذا أعلن الكفر بالله، وأنكر أصلاً من أصول الدين، وإن تكن أفعاله الآن عقوبة من الله، فما أنتم برادّى عقوبة الله بأسيافكم. وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين». الجدل حول موضوع الجبرية والقدرية يعكس فى المجمل صراعاً بين أيديولوجيتَى الاستقرار الداعى إلى تقبُّل الأوضاع القائمة حتى ولو كانت سيئة، اتقاءً لفتنة قد تكون أشد وأنكى فى حالة التمرد عليها، والتمرد الساعى إلى التغيير وتصحيح ما يراه معوجاً فى هذه الأوضاع، بما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج.