لم يكن الأمر مرتباً على أى درجة.. إنما زيارة عادية لأمر ما.. عند البوابة الرئيسية للمعهد الشهير كان السؤال القصير المباشر: «أين مكتب الدكتور جمال شعبان؟» لتجد الإجابة المباشرة التى لا تتبعها أسئلة أخرى روتينية ومملة من عينة «عايزه ليه؟» و«جاى من طرف مين؟» إلى آخر الإكليشيهات المحفوظة على بوابات مؤسسات مسئولينا المهمين!
إلى الداخل الأمر يتكرر بالسؤال نفسه وبالرد أيضاً.. إلى الوصول إلى صالة الاستقبال لضيوف الدكتور شعبان.. هدوء لا تجده لا فى مستشفيات ولا عيادات ولا معاهد.. ولم تجده إلا فى بعض المؤسسات الرسمية جداً لكنه هدوء لا يفرضه أحد ولا تشير إليه يافطات أو لوحات من أى نوع ولا بأى عبارات دبلوماسية.. إنما يفرضه كما لاحظنا أسلوب العمل الذى يلزم أحدهم ليقترب منك ويسألك فى هدوء.. «جئت للدكتور جمال؟».. ربع دقيقة لتكون بمكتبه!
ستكون مخطئاً إن ظننت أن مكتبه جاهز لاستقبالك.. أو على الأقل إن ظننت أنه جاهز لاستقبالك بمفردك.. فالمكتب يعج بالضيوف لكنه سرعان ما يحسن ترتيب المكان لتجلس بالقرب منه ليسمعك وتسمعه.. وما هى إلا لحظات وتسمع جهاراً شكاوى الناس.. فهذا لم يصل أمر العلاج على نفقة الدولة لكن التعليمات الفورية «اعملوا العملية ويجيب الأمر بعدين»! وهذا يسأل عن ملاحظات لمريض يخصه وتأتى الإجابة المطمئنة بلا انفعال.. أما تلك فقد انتظرت طويلاً وأمام قائمة العمليات الطويلة أبلغوها أن عليها العودة لمنزلهم بأمها والمجىء مرة أخرى! لكن فيما يبدو أن المرضى وأهلهم قد عرفوا الحل.. الكبار يستطيعون حل المشاكل الصغيرة.. ومشاكل الصغار أيضاً.. فينظر إليها الدكتور جمال شعبان ويسأل طبيباً شاباً جاء بالصدفة عرفنا فيما بعد أن اسمه الدكتور محمد عرابى أحد الماهرين فى عمليات الدعامات والقسطرة، والذى يشرح كيف أن الغرف مزدحمة بالحاجزين.. وأن دور هذه السيدة متأخر جداً.. وأنه أجرى عدداً كبيراً من العمليات اليوم وسينصرف لأنه غادر المعهد فى الليلة السابقة فجراً! إلا أن الدكتور جمال يطلب منه أن يكمل دوره وأن يتحمل من أجل هؤلاء.. وهذا «أرحم» من أن تعود هذه السيدة بأمها بهذه الحالة إلى قريتهما وتعودا من جديد! يبتسم الدكتور عرابى ويوافق على الفور.. غير مكدر.. وبوعى بنوعية المرض.. ومرضاه.. وما يتطلبونه من «راحة نفسية» قبل التعامل العضوى.. وقد كان.. وخرجت السيدة لتبشر أمها أنها سترجع بيتها معافاة بإذن ربها شاكرة لهما موقفيهما!
أجمل ما فى المشاهد السابقة أنها عفوية.. شاهدناها صدفة.. لكن هناك الأمر لا يتم بالصدفة.. فقد اتخذ قراراً منبعه الضمير أولاً والقدرات الإدارية الخاصة ثانياً والرغبة فى الانتقام من الروتين ثالثاً، بإجراء العمليات دون انتظار قرارات العلاج! واستقبال الحالات فى أى وقت والتعامل معها لحين معرفة تفاصيلها.. وعندما نعرف أن هذا المعهد العملاق الذى أسسه جمال عبدالناصر بقرار جمهورى عام 1964 فى عهد وزير الصحة الأسطورى الدكتور النبوى المهندس وافتتحه رئيس الوزراء وقتها زكريا محيى الدين يستقبل فى السنة مليون حالة!!! ويجرى يومياً ثمانين عملية منها سبعون للقسطرة والدعامات وعشر حالات جراحات قلب مفتوح، سنعرف حجم الإنجاز اليومى والسنوى الذى يقدمه.. وعندما نعرف أنه تم إهماله سنوات طويلة مضت ولكن يعاد تأهيله فى عهد الرئيس السيسى ويشرف على أعماله المهندس إبراهيم محلب بنفسه سندرك رؤية الدولة له ولأهميته.. وبمفهوم المخالفة سنعرف سر الهجوم المتكرر عليه ومحاولات تشويهه، ما بين مافيا خاصة مستفيدة إلى إعلام شرير لا يريد أن تظل أو حتى تعود مصر قبلة للطب فى المنطقة!
تهدأ زيارات المرضى وتبدأ زيارات الأطباء، وبين الزيارة الطويلة بكرم استقبال مشجع يصل الدكتور صالح نافع أستاذ القلب الشهير ومن بعده يصل الدكتور طارق عزيز والدكتورة ندا عبدالحميد الهوال والدكتور فريد فؤاد أساتذة الطب الكبار بالمعهد، ولكل منهم تخصص يميزه، كما قال الدكتور شعبان إن الدكتورة ندا مثلاً أفضل من يتعامل فى المعهد مع حالات القلب المصحوبة بأمراض السكر! وهكذا يبدو تخصص التخصص.. ولكن هنا المشهد يختلف.. فمع إهداء كريم من العميد الدكتور لكتابه عن القلب والطب النبوى.. وهو ليس كتاباً صوفياً إنشائياً وإنما محاولة لإبراز الصلة بين العلم والطب الشريف.. ولكن أيضاً الحوار يتخلله مداخلات من الدكتور طارق عزيز مع كلام فى العلم والسياسة لباقى الحضور، لتكتشف فجأة كيف جمع المكتب حواراً دينياً صوفياً علمياً سياسياً بين أطباء كبار، منهم القبطى ومنهم المتصوف ومنهم المرأة! كان مجلساً للعلم لم يقطع ولم يمنع للحظة من متابعة أحوال المعهد ومرضاه!
لماذا نقول كل ما سبق؟ نقوله والقلم لم يتوقف فى انتقاد وكشف كل مهمل وفاسد، وتشهد هذه المساحة وغيرها فى صحف أخرى على ذلك، ولذا يستحق من يؤدى واجبه ويضيف فوق مسئولياته بل ويتجاوز بيروقراطية قاتلة، نقول يستحق أن نشيد به ونشد على يديه، على أمل أن نرى عشرات ومئات المسئولين يؤدون الأداء عينه.. كما نقوله لكى يطمئن أصحاب القلوب الموجوعة أنهم سيكونون بين، فضلاً عن رعاية الله، أيدٍ أمينة ترعى الله قبل أن تخشى لوائح أو إجراءات.. ونقوله لكى يعرف القاصى والدانى أننا لدينا مؤسسات كبيرة وصروح عملاقة تحتاج الدعم المعنوى قبل المادى ولا يصح أن ندمر كياناتنا بأنفسنا.. ويظل السؤال فى كل سطر وكل كلمة: هل لا توجد أخطاء داخل المعهد؟ لو قلنا نعم لخلعنا ثوب البشرية عن القائمين عليه وزائرينه.. لكن يحتاج الخطأ إلى التنبيه ثم إلى الشكوى ثم إلى العقاب وحتى قطع الرقاب.. لكن لا يحتاج أبداً إلى هدم مؤسساتنا عاليها واطيها ولا لطم الخدود وشق الجيوب فيموت المرضى قبل علاجهم.. نحتاج الرفق ومراعاة ظروف الآخرين وأحاسيسهم.. خصوصاً أن الحال أفضل بكثير جداً مما سبق.. ونريده أفضل وأفضل وأفضل.. إنها مملكة القلوب العامرة المتعافية بإذن الله.. فى حى العجوزة الشهير!