منذ ما يزيد على 8 قرون من الزمان، وبعد أن استوت المذاهب الفقهية المعروفة، دعا البعض إلى إغلاق باب الاجتهاد، وجُوبهت محاولات بعض الفقهاء لتقديم رؤى فقهية مختلفة برفض خفى، وأحياناً معلن من المؤسسات الدينية، التى نصبت نفسها حارساً على المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة. ورغم ذلك لم تتوقف محاولات كسر حالة الجمود التى أصابت العقل المسلم، فظهر بين المسلمين من يُقدّم قراءات مختلفة ويستنبط أحكاماً شرعية جديدة تستجيب لمتطلبات العصر الذى يعيش فيه، والاجتهادات التى قدّمها الإمام محمد عبده نموذج على ذلك.
يذهب علماء الدين إلى ضرورة توافر شروط معينة فى المجتهد، ويصرون على ضرورة تحققها فى من يقدم جهداً فى هذا السياق، ويستندون فى ذلك إلى حجج وجيهة شكلياً تقول إن دخول كل من هب ودب إلى ساحة الاجتهاد قد يؤدى فى بعض الأحيان إلى التلاعُب بالنصوص، واستنباط أحكام غير شرعية منها. هذا الكلام لا يخلو من وجاهة شكلية كما ذكرت، لكن على المستوى الموضوعى نجد الأمر مختلفاً. فقصر الاجتهاد على أشخاص أو مؤسسات دينية بعينها يتناقض مع الكثير من المفاهيم الثابتة فى الإسلام. فالنبى شجّع المسلم -أى مسلم- على الاجتهاد، فى قوله، صلى الله عليه وسلم: «مَن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد، ومَن اجتهد وأصاب فله أجران»، فالاجتهاد فى الإسلام مطلوب فى ذاته ولذاته. والقرآن الكريم طالب المسلم فى العديد من الآيات الكريمة بالاحتكام إلى عقله فى الاهتداء إلى الله، وفى الحكم على الحلال والحرام، والطيب والقبيح، والمقبول وغير المقبول فى الحياة. وقد جمع واحد من كبار مفكرينا: «الأستاذ عباس محمود العقاد» هذه الآيات الكريمة ونسج حولها دراسة هائلة، اختار لها عنواناً شديد الدلالة هو «التفكير فريضة إسلامية».
جملة «التفكير فريضة إسلامية» شديدة الدلالة فى موضعها. وهى تقول إن «الاجتهاد العقلى» فريضة مقرّرة على كل مسلم، شأنها فى ذلك شأن الصلاة والزكاة والصيام والحج. فكل مسلم مطالب بالتفاعل العقلى مع النص الدينى، والاجتهاد فى فهمه. وعقله هو مرجعيته، وليس يهم بعد ذلك إذا أخطأ أو أصاب، لأن «الاجتهاد» مطلوب فى ذاته ولذاته. ولكى يتمكن المسلم من أداء هذه الفريضة، فعليه أن يتعلم، وأن يرتقى بعقله ويحسن تأسيسه. فمثلما يتعلم المسلم الصلاة والصيام والحج والزكاة، عليه أن يتعلم التفكير، ويفهم أنه فريضة لا تقل قيمة أو ثواباً عن الفرائض الأخرى، التى فرضها الله تعالى عليه.
ذكرت لك أن الدعوات إلى غلق باب الاجتهاد ظهرت منذ ما يزيد على 8 قرون، أى أوائل القرن السادس الهجرى، ولو تتبعت حركة التاريخ الإسلامى فسوف تجد أن منحناه شرع فى الهبوط بعنف بعد هذا التاريخ. غلق باب الاجتهاد كان كارثة ظهرت تداعياتها أول ما ظهرت فى سقوط بغداد على يد التتار عام 656هـ، ليدخل العالم الإسلامى بعدها فى حالة من الفوضى ويصبح مطمعاً لكل من هب ودب. الأصل فى كل هزائمنا هو «تعطيل العقل» وتلجيم حرية الفرد فى التفكير والاجتهاد.