دائماً يبدو المعارضون أكثر إثارة وتشويقاً وإغراء. وهو إغراء ليس كذلك الذى يتسبب فيه فستان أو تنتج عنه فتنة أو شهوة، لكنه إغراء طرح الجديد وسرد المثير وتقديم تصور يختلف شكلاً وموضوعاً عن السائد المهيمن المسيطر. وتتمتع المعارضة، دائماً وأبداً، بهالة من الإلهاب اللذيذ الذى يرتبط، عادة، بتلك الأشياء غير كاملة المعالم، غير مكتملة الأركان التى تلوح فى الأفق، فيبنى على أساسها الناس خيالات، بعضها يدغدغ الأحلام، والبعض الآخر يضعضع الوضع القائم، لا سيما إن كان لا يحظى بشعبية أو قبول من الأغلبية.
الأغلبية تنظر إلى المعارضة بعين ملؤها الاحترام.. لماذا؟ لأنها تسبح عكس التيار، وتختار الصعب وتنخرط فيما يحمل دائماً قدراً من الخطورة. والخطورة ليست أمنية فقط، لكنها قد تكون خطورة خسران الشعبية، أو فقدان الأهلية، أو الوقوف فى وضع مُخزٍ فى يوم يكرم فيه الحزب (أو المرشح) أو يهان، ألا وهو يوم الانتخاب.
وأفخر أننى كنت، خلال السنوات الـ15 الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق مبارك، أقف على ضفة المعارضة. صحيح أنها لم تكن معارضة مؤسسية أو حزبية أو حتى أيديولوجية، إلا إنها كانت معارضة فكرية تستمد وقودها بالتعايش، حيث مشاهدات يومية، تليها استنتاجات دورية بأن الأوضاع المعيشية تسير من سيئ إلى أسوأ، وأنه جارٍ تجريف البشر بشكل شبه منظم، وأن الأمور، وإن كانت تسير اليوم بيومه، إلا أنها ستنفجر، إن لم يكن اليوم فغداً.
لكن غداً جاء، وانفجرت الأمور بشكل لم يكن فى الحسبان. ولأن الحسبان أمر صار مطلوباً أكثر من أى وقت مضى، فإن مجريات السنوات السبع الماضية تدفع البعض -وأنا منهم- إلى التفكير مرتين وثلاثاً وأربعاً فى إعادة تعريف معنى المعارضة، ووضع رؤية للغاية منها بناء على تصورات نابعة من أرض الواقع وليس الخيال السرمدى.
والخيال السرمدى وحده هو من يصور للبعض أن هناك نظاماً سياسياً على وجه المعمورة غير قابل للمعارضة. لكن النزول اليومى إلى الشارع يجعلنى أفكر كثيراً فى شكل المعارضة المرجوة ذات القيمة التى يمكن أن تفيد أكثر مما تستفيد، وتعبِّر عن رغبات الناس أكثر من طموحات الساسة، وتطرح إجابات وحلولاً أكثر من عرض الأسئلة وسرد العراقيل! وكلما انخرطت فى تفاصيل الحياة اليومية، وجدت نفسى غير قادرة على وضع تصورات لهذه المعارضة المطلوبة.
فهل المطلوب حزب سياسى ينظر بعين الاعتبار إلى معاناة الناس، ويضع على أساسها تصورات لكيفية تقليصها وسبل مواجهتها والطريق الأمثل لمنع حدوثها مستقبلاً، وذلك بناء على أيديولوجيا مغايرة تعكس روح الحزب وتمثل توجهاً ينجح فيما لا ينجح فيه النظام الحاكم؟ أم المطلوب أفراد يحمل كل منهم تصورات لحلول لمشكلات آنية، ومعها تصورات لمخططات مستقبلية تحقق قدراً أكبر من الاستقرار ومعياراً أعلى من الانتعاش الاقتصادى وكماً أوفر من الرفاهية والرخاء المعيشى؟ أم المطلوب إطلاق العنان لكل من يحب أن يستيقظ صباحاً ليصب غضبه على المسئولين، ويسخر حتى الثمالة من كل قرار ومشروع وإجراء، ويعاود الكرة مساء قبل أن يخلد إلى النوم، فيؤكد على ما صبَّه صباحاً، مضيفاً إليه فقرة صب مسائية مع رشة سخرية جريئة تحظى بـ«لايكات» الأصدقاء و«شير» المعارف؟
المعروف -دون شك- أن المعارضة لا تقل أهمية عن أى نظام حاكم، وهى -شأنها شأن الإعلام الحر المسئول- تقوم بدور الرقيب على أداء الحكم. كما أنها الضمان شبه الوحيد للاستقرار الحقيقى للدول، شرط أن تكون معارضة حقيقية، لا هى كرتونية، ولا هى تعبر عن مصالح «صاحب» الحزب، ولا هى فوقية تنظر إلى جموع الشعب من أبراج عاجية، ولا هى محلقة فى فضاءات سقراطية.
فما هى مقومات المعارضة المطلوبة فى مصر، حتى نصح قلباً وقالباً، حكاماً ومحكومين؟ وهل هذه المقومات متاحة؟