(1) المفروض والمطلوب والمنطقى، فى أى نظام تعليمى صحيح، أن يتعلم الطالب أو التلميذ كيفية استخدام المعلومات، وليس مجرد استيعابها أو حفظها. الناس - مثلاً - يتعلمون القراءة والكتابة من خلال معرفة الحروف الأبجدية، ولكن أحداً من القائمين على شأن التعليم فى أى بلد لا يمتحن التلاميذ فى حفظ هذه الحروف الأبجدية، وإنما يطلب منهم استخدامها فى القراءة والكتابة، وكذلك الحال فى جدول الضرب والجداول الرياضية وتصريف الأفعال والأسماء والصفات وسائر المعلومات الأساسية الأخرى فى شتى العلوم.
التلميذ المصرى يكتفى، طوال مراحل الدراسة، بحفظ المعلومات التى يتضمنها المنهج الدراسى فى شتى المراحل، من الحضانة حتى الجامعة. والتعليم المصرى فى كل هذه المراحل يعتمد على درجة استيعاب الطالب للمعلومات، وليس على مستوى فهمه لهذه المعلومات وقدرته على استخدامها، فضلاً عن منحه فرصة النقد والتحليل وتكوين شخصية علمية حقيقية لا يقلد فيها أحداً، ولا يخشى الاختلاف عن أحد، حتى لو كان هذا الأحد أستاذ المادة أو مؤلف الكتاب، أو حتى أحد أساطين العلم فى تخصصه. ووصلنا فى السنوات الأخيرة إلى حالة من التدهور الرهيب فى مستوى خريجى كل مراحل التعليم العام والجامعى، لدرجة أن موضوعات التعبير فى اللغة العربية واللغات الأجنبية صار الطلاب يحفظونها من خلال الدروس الخصوصية، أو أساتذة مادة المقال فى أقسام اللغات بمعظم الجامعات المصرية الحكومية، الذين يقدمون لطلابهم مقالات جاهزة يكتبون أحدها فى الامتحان.
(2) إحدى أهم وسائل إصلاح هذا الوضع الخائب هى ما تقرر هذا العام فى شأن طلاب الصف الأول الثانوى، حيث قال الوزير إنهم سيؤدون الامتحان ومعهم الكتب المقررة فى شتى مواد الدراسة. وهذه الطريقة تعنى أن الامتحان لن يكون فى تحصيل المعلومات، ولكن فى القدرة على فهمها واستخدامها. ولن يستطيع الطالب فى هذه الحالة نقل أية معلومات من الكتب التى معه أثناء امتحان أية مادة من المواد، ولكنه يستطيع فقط الاسترشاد بأية معلومة لا يتذكرها جيداً، ثم يستخدمها بعد ذلك فى الإجابة على أى سؤال يتطلب استخدامها وليس سردها أو كتابتها دون تطبيق يقدمه بنفسه.
فى هذا النظام لا يتوتر الطالب من الامتحان، ولا يلغى عقله، ويستخدم ذاكرته، ولا يحتاج لمدرس خصوصى يقدم له كل احتمالات السؤال على سبيل الحصر ويطلب منه حفظ كل الإجابات النموذجية لهذه الاحتمالات. وطبيعى أن يتخلص الطالب من الغش والبراشيم وكل الوسائل الشبيهة بذلك، لأن الكتب التى أمامه لا تتضمن أية إجابات مباشرة، مثلما الحال فى الامتحانات التقليدية ذات الرقم السرى والمراقبين والشرطة والحكومة والتسريب الإلكترونى (إلخ.. إلخ).
(3) مع كامل الاحترام لهذا التطور العظيم الذى يقوده طارق شوقى، وخلفه النظام السياسى بأكمله، وعلى رأسه رئيس الجمهورية نفسه، فإن المفروض تطبيق نفس هذا التطوير على كل كليات التربية فى سائر الجامعات الحكومية. والمفروض أيضاً أن يكون تطوير هذه المناهج تحت إشراف وزير التربية والتعليم، وفى إطار مشروعه الذى بدأ تنفيذه هذا العام. المفروض أن نجد فى السنوات المقبلة نوعية جديدة من المدرسين لا تحتاج تدريباً جديداً على نظام جديد، ولكنها تخرجت فى كلياتها وفق هذا النظام وليس بالطرق البالية المتخلفة التى تطبقها معظم الكليات طوال الأربعين عاماً الماضية.
ينبغى الآن إلزام كل كليات التربية بتكليف كل أعضاء هيئة التدريس العاملين بها بتدريس كل المواد المقررة بنفس استراتيجية التعليم العام التى بدأ العمل بها فى الصف الأول الثانوى والصف الأول الابتدائى. ومعنى هذا الكلام أن علينا إلغاء أسئلة سرد أو حفظ المعلومات فى هذه الكليات، وتحويلها إلى أسئلة فهم واستخدام تلك المعلومات، وعلينا أيضاً السماح لطلاب كليات التربية باستخدام الكتب فى الامتحانات، مثل طلاب أولى ثانوى، وتدريبهم فى كل المواد والتخصصات على الأبحاث والدراسات النقدية الحقيقية لشتى المناهج الدراسية.
(4) وعلى الجانب الإدارى أو السياسى، يُفترض أن تتجه الحكومة لإعادة نظام تكليف خريجى كليات التربية وتعيينهم جميعاً فور تخرجهم، مع إمكانية تخفيض عدد المقبولين فى هذه الكليات حتى يتناسب مع الاحتياجات الفعلية للمدرسين فى كل تخصص، بعد أربعة أعوام من قبول كل دفعة من الدفعات التى يُفترض تطبيق نظام التكليف عليها.
وفى ذات هذا السياق يجب أن توفر الدولة موارد تستخدمها فى رفع رواتب المدرسين وتضعهم فى مقدمة كل العاملين بالدولة، مثلما تفعل دول أخرى كثيرة، منها اليابان التى نستعين بها حالياً فى تطوير التعليم العام والفنى.
قد يكون من الصعب تطبيق كل هذه الإجراءات فى وقت واحد وعلى كل العاملين فى التربية والتعليم، ولكن يمكن - على الأقل - البدء فى تطوير مناهج كليات التربية وطرق التدريس والامتحانات من العام الدراسى المقبل، وتطبيق نظام التكليف بعد أربعة أعوام تبدأ كذلك من العام المقبل، ونكتفى فى السنوات الانتقالية بتدريب ما لدينا من مدرسين وإصلاح أحوالهم المادية بالتدريج، إلى أن يفتح الله علينا بموارد حقيقية يمكن استخدامها فى كادر جديد تماماً يبدأ تطبيقه مع تعيين أول دفعة تتخرج فى كليات التربية، بعيداً عن عاهات الحفظ والغش والأرقام السرية والبراشيم والمذكرات ولجان الرأفة والكتب المقررة.
(5) هذه الخطوات - حال تطبيقها أو إعلانها - سوف تضع كليات التربية فى العام المقبل على رأس كل الكليات التى يطلقون عليها اسم كليات القمة، وسوف تجتذب أفضل العناصر من الحاصلين على الثانوية العامة، وسوف تؤدى لإصلاح تدريجى اجتماعياً ومادياً وعلمياً وعملياً لمستوى المدرس المصرى. ودون ذلك يستحيل تحقيق النجاح الكامل والحقيقى لمشروع تطوير التعليم، فالمدرس الحالى الذى يقدم المعلومات للتلاميذ على طريقة «تزغيط البط» أو «أغانى المهرجانات» لن يقبل، ولن يستطيع، تدريب هؤلاء التلاميذ على الفهم والنقد وتكوين شخصية علمية حقيقية يخوضون بها غمار الحياة فى أية مهنة تُسند إليهم، أو أى دور فى المجتمع الخاص أو العام الذى ينتمون إليه.
استصلاح المليون ونصف مليون فدان مشروع عظيم، ولكن استصلاح مليون ونصف مليون مدرس محترم وحقيقى سوف يقدم لهذا البلد عائداً يفوق ما ننتظره من كل الفدادين القديمة والجديدة والطبيعية والمستصلحة، ومن كل الثروات التى ننتظر أن يرزقنا الله بها.