الانشقاق الذى وقع فى جماعة «أهل السنة للدعوة والجهاد»، المشهورة باسم «بوكو حرام»، فى منتصف العام 2016م، لم يؤدِّ إلى ضعف التنظيم كما هى العادة فى التنظيمات التى تتعرض لمثل تلك الشروخ، بل على العكس ربما تضاعف الخطر فى المنطقة الواقعة فى الشمال الشرقى لنيجيريا، حيث تتعرض المنطقة الحدودية الواقعة على حدود أربع من الدول ذات الأهمية، هى نيجيريا والنيجر وتشاد والكاميرون، إلى العديد من مخاطر التهديدات المسلحة، التى ينفذها بين الحين والآخر كلا الفصيلين اللذين خرجا من رحم «بوكو حرام»، أحدهما يعرف بجماعة «أبوبكر الشكوى»، والأخرى تتبع القيادى الشهير «أبومصعب البرناوى».
«البرناوى» تولى القيادة رسمياً من قبل تنظيم «داعش» فى صيف 2016م، لما صار يعرف بـ«الدولة الإسلامية لغرب أفريقيا»، ومؤخراً أعلن هذا الفرع الداعشى سيطرته على مدينة «كانغاروا» عبر إذاعته لمقطع مصور يظهر سيطرة مقاتليه على المدينة الاستراتيجية. ووضع فيه بعض اللقطات التى تظهر أرتال سيارات الدفع الرباعى، المثبت عليها الرشاشات الثقيلة التى يحلو لـ«داعش» بثها مع كل دخول جديد لمدينة من المدن التى يغير عليها بواسطة أى من فروعه، أو قوام التنظيم الرئيسى كما جرى فى مدينة الموصل العراقية. جرى ذلك وأكده شهود العيان بالمدينة، بالرغم من أنها ليست المرة الأولى التى تتعرض فيها تلك المدينة على وجه التحديد لهجمات التنظيم؛ فقد سبقها محاولة أخرى جرت فى العام 2013، كانت على ذات النسق من أشكال الإغارة قبل أن تطردها القوات الحكومية لاحقاً. هذه المرة يبدو أن «جماعة البرناوى» تمكنت من الحصول على دعم عسكرى كبير، خاصة مع استخدامها للقصف المدفعى لدعم القوات المهاجمة، ولإصابة المدافعين بحالة من الصدمة التى تدفعهم للتشتت. فى الوقت ذاته يقوم بتنفيذ اختراقات مؤثرة فى صفوف هذه الأخيرة، بالعمليات الانتحارية والاشتباكات المنسقة بالنيران الكثيفة، طبق الأصل كما جرى فى الهجوم على السويداء السورية منذ شهور.
بعد أن قام «داعش» بتنحية «أبوبكر الشكوى»، بعد ستة أعوام من قيادة التنظيم منذ مصرع مؤسسه «محمد يوسف» على يد القوات الأمنية فى 2010. قام بإسناد الولاية إلى «أبومصعب البرناوى» الذى هو نجل المؤسس «محمد يوسف»، مما أعطى للأخير الذى كان يشغل قبلاً مهمة المتحدث الرسمى، نفوذاً معنوياً وتاريخياً على القيادات التى صحبت والده فى مرحلة التأسيس. مما جعله يستأثر بالغالبية من القوة الضاربة من المقاتلين، والتى قدر عددها بنحو 3500 مقاتل، فى الوقت الذى عاد فيه «أبوبكر الشكوى» إلى ولائه القديم إلى تنظيم القاعدة، منشقاً عمّا عُرف بـ«ولاية غرب أفريقيا» مصطحباً معه نحو 2000 من المقاتلين. وكعادة التنظيمات التى تقلب أعضاؤها أو أفرع منها بين ولاءات «القاعدة» و«داعش»، لم تجرِ مشاحنات أو تصادم بينهما، إنما على العكس جرى ما يمكن اعتباره تقسيماً جغرافياً للنفوذ ومناطق العمل.
حيث وُجد تنظيم «بوكو حرام» مرة أخرى بقيادة «الشكوى»، فى غابة سامبيسا بشمال شرق نيجيريا التى تبلغ مساحتها ما يزيد على 50 ألف كيلومتر مربع. لتضمن له منطقة عمليات، بولايات الشمال الشرقى «بورنو، ويوبى، وبوتشى، وغومبى»، وصولاً إلى ولايات الشمال الغربى «كانو، وجيغاوا». وهى كامل امتداد تلك الغابة مترامية الأطراف، التى شكلت منذ العام 2002 المعقل التاريخى لعمل التنظيم وملاذه الآمن، حيث صعبت الأمر على أى من القوات الأمنية أو العسكرية من زحزحته أو تطهير المنطقة، وبسط السلطة المركزية عليها. أما الشق الآخر من التنظيم الذى آثر البقاء تحت ولائه لـ«داعش»، فقد انصب وجوده فى تخوم «بحيرة تشاد» حيث يضمن له هذا الموقع القدرة على التنقل ما بين الدول الأربع السابق ذكرها، باعتبار حدودها الهشة بمثابة امتدادات منطقية لعناصره، يتنقلون بينها ويشنون غارات متوالية فى العديد من بلداتها، على خلفية طابعهم المعولم الذى لا يقصر اهتمامه على الأراضى النيجيرية، فهم يقدمون أنفسهم باعتبارهم ولاة العمل المسلح فى الغرب الأفريقى برمته وصولاً لموريتانيا، ومن هنا جاءت تسمية «ولاية غرب أفريقيا».
ما يمكن اعتباره متغيراً كبيراً، ظهر بصورة لافتة فى الأداء القتالى لهذا التنظيم، منذ وقت ولاية «أبوبكر الشكوى» قبيل عملية الانشقاق، هو أن «داعش» تمكن من تغيير عقيدة «بوكو حرام» وتطويرها، من خلال تنامى العمل العسكرى المنضبط من الناحية التكتيكية، فى أساليب الهجوم والدفاع والمناورة لدى عناصره. مع استبدال عمليات الإغارة والتخفى، إلى أخرى تتمسك بالأرض ومنها تشن هجمات مدعومة بالقصف المدفعى، واعتماد أساليب العمليات المركبة على نسق عمليات «الأسلحة المشتركة» للجيوش النظامية، يسبقها جهد معلوماتى «استخباراتى» تمكنت عناصر التنظيم من إتقانه مؤخراً. تلك القفزة النوعية فى مهارة عناصر التنظيم، تعود على الأرجح لتناقل الخبرات المكثف الذى كان يجرى عبر المواقع الإلكترونية، التى صارت قادرة على تعويض غياب المدربين، أو التفافاً على عدم قدرتهم على الوصول بسبب الملاحقات والتضييق الأمنى والعسكرى.
تجلى هذا التطور النوعى فى قدرات هذين التنظيمين، فى عملية الاستيلاء الأخيرة على مدينة «كانغاروا» التى تبنتها «ولاية غرب أفريقيا». وقبل تلك العملية ظهر أيضاً بصورة مماثلة فى الهجوم الذى نفذته الجماعة ذاتها فى سبتمبر الماضى، بحق قاعدة عسكرية نيجيرية فى «زارى» الواقعة قرب الحدود مع النيجر. تمكن التنظيم حينها من قتل ما لا يقل عن 30 جندياً قبل أن تصل قوات الدعم البرى والجوى، لتتمكن من إنقاذ الباقين، خاصة أن المقاتلين استخدموا حينها وفق الجيش النيجيرى شاحنات وأسلحة ثقيلة، وأنهم كانوا مزودين بمعدات عسكرية استولوا عليها فى هجمات سابقة على قواعد الجيش.
هذا الحزام النارى الواقع فى القلب الأفريقى، لن يتخلى عنه «داعش» بسهولة ولا «القاعدة» من قبله. بل ربما سيشهد لاحقاً المزيد من تكثيف العمليات، باعتباره نموذجياً لنقل العمليات إليه تعويضاً عمّا أصاب المركز فى سوريا والعراق.