فى عام 1926 قام رائد الأفلام الوثائقية فى العالم، جون جريرسون، لأول مرة باستخدام مصطلح السينما التسجيلية.. ذلك المصطلح الذى ابتدعه ليصف به نوعية من الأفلام تعتمد على عرض صور وأحداث حقيقية عن حياة الناس..
منذ ذلك الوقت ظهر للعالم فن جديد يُكتب به التاريخ.. فن يوثق الحقائق بالصوت والصورة قبل أن تنسى فى خضم الأحداث التى تعصف بالأذهان قبل الأشياء.
منذ ذلك الوقت عرف العالم ما أطلق عليه الأفلام الوثائقية..!
والحقيقة أن المتابع لتاريخ السينما سيلاحظ أنها قد بدأت تسجيلية أو توثيقية فى الأساس.. حين صور الأخوان لوميير خروج العمال من المصنع عقب انتهاء الدوام.. وذلك الصبى الذى كان يلتهم التفاحة فى مشهد كان يثبت للمشاهدين نجاح فكرة تحريك الصور.. قبل أن يبدأ الخيال فى إفراز القصص والحكايات لتخرج لنا الأفلام والدراما.
ولأعوام طويلة ظل فن الأفلام الوثائقية حاضراً على استحياء فى عالم السينما.. وظل يخرج لنا بعض الأفلام الجيدة لتأريخ الإنسانية كلها دون تحيز.. وظل يمتلك جمهوراً محدوداً من المهتمين به دون أن ينتشر بقوة لأسباب تسويقية أو إنتاجية.. حتى اختلف الأمر تماماً فى الفترة الأخيرة.
ففى العقدين الأخيرين تحول هذا الفن إلى سلاح خطير.. سلاح يشكل الوعى الجمعى للشعوب عن طريق تأصيل الفكرة وعرضها فى سياق يجعلها مقبولة عند المشاهد.. فيبدأ فى التفاعل معها وتقبلها على أنها حقيقة.. الأمر الذى أخرج الأفلام الوثائقية من كونها مجرد رصد لحقائق أو تقرير لواقع موجود إلى أدوات للتوجيه والاستقطاب.. وربما التزييف فى أحيان كثيرة.. خاصة بعد ما رصدت بعض الجهات ميزانيات ضخمة وأنشأت قنوات كاملة لتلك النوعية من الأفلام فقط لتبث أفكاراً معينة تخدم مصالحها.. فخرج علينا ذلك الفيلم الذى أخرجته الجزيرة القطرية منذ أعوام عن الجندى المصرى.. واستغل الصهاينة الفكرة فأنتجوا مئات الأفلام الوثائقية التى تجد فيها تاريخ اليهود كما يريدون هم أن يعرفه العالم.
ربما لكل الأسباب السابقة سعدت كثيراً عندما أدركت الدولة المصرية هذا السلاح.. وبدأت فى التعامل معه بشكل احترافى عصرى.. فظهر للنور فيلم «السندى أمير الدم».. ذلك الفيلم الذى أنتجته قناة «دى إم سى» وكتبه وأخرجه صديقاى أحمد الدرينى وشريف سعيد.. والذى كان باكورة الأعمال التى بدأت فيها الدولة المصرية التعامل مع هذا النوع من الفنون بشكل حقيقى وعصرى.. ثم تبعه العديد من الأفلام الوثائقية التى تسرد تاريخ الوطن بلسان أبنائه مثل فيلم «جذور» لنفس فريق العمل وفيلم «واحد صحيح» الذى عرض منذ بضعة أيام لفريق آخر من الشباب.. والذى يقدم الوطن بعيون محبة مخلصة.. ويعرض أوصاله كما هى على حقيقتها دون زيف أو تحيزات كارهة له.
لقد بدأ النظام فى إدراك خطورة هذا الفن.. وتعامل معه بمحترفين من أبنائه.. ليخرج لنا العديد من الأفلام الوثائقية الجيدة جداً فى رأيى كمشاهد أو محب لتاريخ هذا الوطن.. أفلاماً تعرض ما لن يعرضه الآخرون.. ويؤرخ لنفسه كل ما يحاول الآخرون إخفاءه أو تزييفه عبر إعلامهم.
ربما كان عليه أن ينتبه لهذا الأمر قبل ذلك بكثير.. ولكن أن تأتى متأخراً.. خير من ألا تأتى أبداً.
إنها كتب جديدة فى التاريخ المصرى الحديث بل وتاريخها العريق.. كتب كتبها مبدعون بالصوت والصورة.. كتب ستعيش لتؤرخ لهذا العصر ولعصور سابقة وتالية.. فشكراً لمن أدرك قيمتها وساعدها على الظهور.. فهذا الوطن أولى أن يكتب تاريخه بنفسه!