ماذا يريد المواطن من نشرة الأخبار؟ وما الذى يبحث عنه الجمهور المتابع لأخبار الوزارات والهيئات والجهات الرسمية؟ وما الغاية من متابعة الجديد الصادر عن هذه الوزارة أو تلك الهيئة؟ بعيداً عن معرفة أخبار العالم وما يدور فيه، فالمؤكد أن الغاية هى معرفة الجديد فيما يختص بالعمل الحكومى، والمتابعات الوزارية لأعمالها كل فى مجاله، وسبل حل مشكلات المواطنين، والمشروعات الجديدة، والقرارات الجارى أو التى جرى اتخاذها، والإعلان عن خدمات جماهيرية أو التحذير من أحوال جوية، أو أعمال تنقيب، أو تشغيل أموال وهمية.
لكن الوهم، كل الوهم، أن يتحول جانب من وسائل إخبار الجمهور وجزء من محتواها إلى مجاملات متبادلة بين الأجهزة الحكومية والهيئات الرسمية وبعضها البعض. لفت انتباهى فى الأشهر القليلة الماضية -وبحكم عملى الصحفى- تخمة رهيبة فى قسم الرسائل الإلكترونية الواردة، ومحتوى مجموعات «واتس آب» التابعة لعدد من الجهات الرسمية، برسائل مجاملات هلامية.. فهذه الهيئة الفلانية تهنئ الوزارة العلانية بالقرار الفلانى الذى تم اتخاذه. وهذا المجلس الفلانى يرسل ببرقية شكر إلى المجلس الآخر العلانى يشكره على رسالة التهنئة التى أرسلها الأخير للأول يهنئه فيه على القرار العظيم الذى تم اتخاذه والذى يخدم الوطن ويرفع من شأن المواطنين. وتلك وزارة ترسل بأرقّ التهانى وأجمل الأمانى لفلان الفلانى فى مناسبة عيد النصر، أو ذكرى بناء السد، أو عيد من الأعياد.
بالطبع ربنا يجعل أيامنا كلها أعياداً، لكن أين المواطن العادى والمتلقى المنتظر لمحتوى خبرى يبل به ريقه، أو يفرح به قلبه، أو يزقطط به وجدانه؟! مشوار قصير مع سائق تاكسى رصين، فنجان شايه فى يده، وسيجارته فى فمه، يأخذ رشفة من هنا ثم ينفث نفخة من هناك، ويدلى بدلوه فى حال البلاد والعباد بنظرة المحلل الثاقبة ورؤية الخبير الناقدة. رفرف قلبى وهفهفت روحى فرحة بتفاؤل الرجل، رغم هموم يبدو أن فنجان الشاى والسيجارة ساهما فى تبديد جزء معتبر منها.
تحدّث عن الصبر حتى تتضح نتيجة الإجراءات الاقتصادية الصعبة، وأشار إلى الرضا الذى أمرنا به الله سبحانه وتعالى، وعرج على المقارنة بين ما كنا فيه من فساد للركب، ثم فوضى حتى النخاع، وبعدها فتنة تهدد البلاد، ثم بناء واستقرار رغم الصعوبات والضغوطات. لكن الأوقات الجميلة كلها عمرها قصير، فقد انطلق صوت المذيعة يبنئنا بنشرة إخبارية، فصمت الرجل ورفع الصوت وأغلق الزجاج، فى إشارات دالة على رغبة حقيقية لا ريب فيها فى الاستماع إلى المحتوى.
وجاء المحتوى عجيباً غريباً، حيث كم مذهل من التهانى والأمانى الحكومية والرسمية المتبادلة، تارة بنجاح مؤتمر، وأخرى بتوقيع اتفاق، وثالثة بقرب انتهاء العام. وهنا انفجر الرجل مندداً وشاجباً. وخلاصة ما قاله، وما هو صالح للنشر، هو أن نشرة الأخبار ليست المكان المناسب لتبادل التهانى الداخلية بين أعضاء «الحكومة».
نطق الرجل بالحكمة، وهو ما دفعنى إلى مراجعة بريدى الإلكترونى، لأجد ما لا يقل عن عشرة أخبار نتاج بضع ساعات فقط مرسلة من جهات وهيئات حكومية تهنئ بعضها البعض بقرارات أو مشروعات أو خطوات. مفهوم بالطبع أن القرارات والمشروعات المشار إليها هى للصالح العام، لكن ليس هكذا يتحقق الصالح العام.
هل قرأ أحدنا يوماً خبراً فى صحيفة أو طالع تغطية على قناة غير عربية يتوجه فيها وزير التعليم، مثلاً، لوزير المالية بالتهنئة على الموافقة على الموازنة؟ أو تشكر فيها وزارة المرأة الكنيسة على السماح للنساء بأن يوجدن فى محيطها؟
ما يتم اتخاذه من قرارات، وما يجرى من مشروعات، وما نمضى فيه من إجراءات هو صميم عمل الجهات الرسمية والمهام الوظيفية للوزارات والهيئات الحكومية التى يتقاضون عليها رواتبهم، لكنها ليست مادة لنشرة الأخبار، أو محتوى يرسل للقائمين على أمر الإعلام، أو مادة صالحة للنشر على صفحات الجرائد والمواقع. قللوا التهانى ورشدوا الأمانى تصحوا.