أثناء الخدمة الوطنية أبلغنى الراحل الكريم الدكتور أحمد ثابت، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أنه رشحنى للواء محمود خليل الخبير المعروف بأكاديمية ناصر، كى أكون مساعداً له فى أبحاثه عن أزمة المياة المقبلة بالشرق الأوسط!
ودارت الأيام ومعها أبحاث وأوراق.. كان اللواء خليل رحمه الله من أبطال حرب أكتوبر.. ولأنه أبلى بلاء حسناً فقد على أثره بصره صار لدى قيادات قواتنا المسلحة فى مكانة متميزة ومحل تقدير واحترام الجميع، فظل فى الأكاديمية حتى لقى وجه ربه.. ما يعنينا فى الأمر هو إدراك مصر المبكر، خصوصاً مراكزها البحثية، أن العالم ومنطقتنا تحديداً يقبلون على أزمة للمياة العذبة.. السكان يتزايدون والمشاريع إلى تقدم وتوسع غير مسبوقين وكمية المياه كما هى.. فلا أنهار جديدة ولا تكنولوجيا الاستمطار الصناعى كافية لزيادة حجم المياه.. ولا حل إلا بالبحث فى التكنولوجيا عن حلول منطقية!
كاتب هذه السطور يختلف جذرياً مع نظام الرئيس مبارك ويراه أعاد مصر للوراء مائتى عام، وأنه أكبر عصور الفساد والنهب واللصوصية.. ومع ذلك نعترف بأن إدراك خطر أزمة المياه والبحث عن حلول بدأ فى عهده.. وامتدت خطوط طويلة بمشاريع كبيرة كان جزء مهم منها بسبب معونات ومنح خاصة بهذه المشاريع، وكان لا بد أن تذهب إليها.. ولكن.. ككل ما بدأ فى عهده وسار إما إلى الفشل أو سار بطيئاً لم يجار حركة السكان مثله مثل بناء المدارس.. بنيت فعلاً.. لكن أقل من المطلوب فظهرت الأزمات.. وكانت حلول المياه كذلك.. لذا ومن 2014 شهدت مصر قفزة هائلة فى توفير بدائل لنهر النيل.. لا تشكل نيلاً جديداً ولا بديلاً كلياً إنما على الأقل توفير الأمان المائى عند الضرورة، فلا تكن فرضية عطش المصريين مطروحة من الأساس ولا قابلة للمناقشة والعرض بل تكون أمراً محسوماً ونهائياً.. أن تكون أرض المصريين قابلة للزراعة على الدوام بتوفير الماء لذلك دون أن تكون فكرة بوار الأرض مطروحة على الإطلاق تحت ضغط أى أزمة مائية.. وفى نفس الوقت يقل الضغط أو قل الاعتماد على مياه النيل التى انخفض نصيب الفرد منها فعلياً لبقائها ثابتة مع ارتفاع عدد السكان.. ويبقى سبب رابع لسعى مصر منذ أربع سنوات للتوسع فى مشاريع المياه بشقيها.. تحلية مياه البحر وتنقية ومعالجة مياه الصرف الصحى وهو أن تكلفته تعادل تقريباً تكلفة توصيل مياه النيل إلى المحافظات النائية أو الساحلية تحديداً.. فكان القرار الأصح أن تذهب التكلفة إلى محطات مياه تحقق الأهداف السابقة وقد كان!
كل ما سبق يؤكد إدراك مصر الدولة.. رغم تغير الحكومات وتبدلها للأزمة.. لا علاقة للأمر إذن بسد النهضة أو بغيره.. الاهتمام بالمشكلة سبق ظهور سد النهضة بكثير.. الأمر مرتبط بالأمن القومى إذن.. وليس مجرد مشروعات هندسية.. رغم أنها مشروعات هندسية عملاقة وتدعو للفخر ولا نملك ولا يملك أحد إلا دعمها وتشجيعها والوقوف خلف استكمالها جميعها!
ولذلك ليس غريباً أن يقول الرئيس السيسى فى يناير الماضى إن «مشاريع المياه ليست عملاً ترفيهياً» وليس غريباً أيضاً أن تكون تكلفة أربع محطات جديدة فى جنوب وشمال سيناء والبحر الأحمر ومطروح أربع فقط من بين عشرات المحطات الأخرى تكلفتها 55 مليار جنيه!
وليس غريباً أن يعلن اللواء كامل الوزير عن أكبر محطة تحلية للمياه فى العالم بالغردقة على مساحة 80 ألف متر، وتنتشر محطات التحلية فى بورسعيد والعين السخنة والعلمين وجبل الجلالة والضبعة، بينما عشرات من محطات المعالجة تنتشر فى صعيد مصر، ومنها آخر محطة تم افتتاحها بالجبل الأصفر منذ أيام، والمستهدف منها مليونان ونصف المليون متر مكعب يومياً! المتر المكعب ألف لتر أى ما يقرب من 630 زجاجة مياه معدنية كبيرة!! هذا المتر المكعب الواحد! وكل ذلك بتكلفة خرافية!
الآن نقول: هل تعلم عزيزى القارئ أن يوم افتتاح هذه المحطة السبت الماضى افتتحت مشروعات أخرى كبيرة ومهمة؟! هل تعلم أن بعضها انتشل آلاف الأسر من مخاطر عديدة ومن حياة غير آدمية على الإطلاق؟! هل تعلم أنه رغم ارتباط كل ذلك بالأمن القومى وبالتقدم وبحياة المصريين والخلاص من أزماتهم المزمنة التى عانوا منها طويلاً بتراكم مرهق ومؤلم طوال 45 عاماً لكنه أيضاً يوفر عشرات الألوف من فرص العمل ويفتح أبواب الرزق لأضعافهم من أسر العاملين بهذه المشروعات؟! إذن هل تعلم أخيراً أن لا شىء مما سبق كله اهتم به أحد ونحن نقلب صفحة أسبوع ونستقبل أسبوعاً جديداً، وأن كل ما اهتم به الكثيرون هو حوار الرئيس السيسى مع محافظ القاهرة؟!!! ولكى لا نساهم بالجدل فى الأمر مثل الآخرين لن نناقش الحوار ولا هدفه ولا شىء يخصه إنما نتوقف عند كل مرة يتم فيها افتتاح مشروعات أسطورية ننساها ونبتعد عن مضمونها وأغراضها وننشغل بملاحظة أخرى؟! من أول السجادة الحمراء حتى الحوار المذكور؟ وهل تعلم أن المصريين يقعون فى الفخ للمرة الألف؟ وأن وسائل إعلامنا تساهم فى ذلك؟ وأن الضربة الأولى فى الموضوع تبدأ من صفحات الشر التى تعمل تحت أسماء مستعارة كالجراد على الفيس بوك بأعداد كبيرة، فيعتقد البعض أن هذا رأى عام سيار فيقلدونه؟ وكل منهم يسعى لتقديم نقطة الفرح المنصوب على صفحته؟ وهل تعلم أخيراً أن المثل صحيح تماماً، حيث يؤكد أن «الطريق إلى جهنم مفروش بحسن النيات»؟!
كم عاماً نريد لنفهم تفاصيل وأسرار حروب الجيل الرابع؟! ها؟ كم؟!