نصوص الشريعة من قرآن وسنة تنبض كلها بالحياة، وتحمل من الحيوية والمرونة ما لا يعلمه إلا أولو الألباب، ولكن بعض قصيرى النظر ينظرون لها على أنها جامدة كالحجارة، صماء لا حياة فيها، فلم يستنكف الرسول «صلى الله عليه وسلم» أن يستعير من الفرس عبدة النار فكرة الخندق التى كانت من أسباب نصرته يوم الأحزاب.
اشتد المرض على امرأة من بنى إسرائيل يوم السبت فلم تجد بداً من الذهاب للمسيح عيسى عليه السلام ليعالجها حتى برئت من مرضها، وبدلاً من أن يفرح الكهنة بشفائها إذا بهم يغضبون غضباً شديداً وعلى رأسهم رئيس الكهنة الذى واجه المسيح بقوله: «كيف تبرئ يوم السبت؟ وهو اليوم المقدس، فإذا بالمسيح يلقنه والأجيال كلها درساً قاسياً فى فقه المقاصد والاهتمام بالجوهر قبل المظهر، والإنسان قبل الرسوم والأشكال قائلاً: «يا مرائى أفئن سقط حمارك فى بئر يوم السبت أنقذته وأبرأته وحين يمرض إنسان تتركه فى علته إلى يوم الأحد».
ثم هتف المسيح عليه السلام فى الكون منادياً: «إنما جعل السبت من أجل الإنسان ولم يجعل الإنسان من أجل السبت» وكأنه يقول: صلاح الإنسان وفلاحه وخيره ورشده هو مقصد الشريعة، وكأن الإنسان هو محور الكون. لقد جاء المسيح ليعيد بنى إسرائيل إلى البساطة واليسر والسلاسة، ولكن العقل المادى لديهم جعلهم يضيقون على أنفسهم ولا يحبون اتباع اليسر الذى جاء به، حتى إن اليهود تركوا أورشليم القدس تسقط فى أيدى الغزاة السلوقيين الذين هجموا على القدس يوم السبت فآثر اليهود سقوطها على أن يقاتلوا عدوهم ويدافعوا عن وطنهم وأنفسهم فى يوم السبت، فى جمود معيب يدل على جمود عقلى معيب. وهذا محمد «صلى الله عليه وسلم» يرفض أن يهدم الكعبة ويبنيها على قواعد إبراهيم الصحيحة خوفاً من تفرق المسلمين وتمزقهم وحرصاً على وحدتهم، قائلاً لعائشة ومعلماً للدنيا كلها «يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة ثم بنيتها على قواعد إبراهيم»، فوحدة المسلمين وتآزرهم جعلته يعدل من الأفضل للجائز كما قال البخارى، ويقدم وحدة أمته على ما سواها.
ولكن البعض يضيقون ما وسعه الله على عباده، ويشددون ويعسرون على أنفسهم وأحبتهم وأمتهم ما يسره الله عليهم.
إن محمداً والمسيح وكل الرسل وأتباعهم جاءوا لتعليم البشرية أن الشرائع جاءت لخدمة الإنسان وإسعاده وخيره، حتى هتف ابن القيم معرفاً الشريعة الإسلامية للناس «عدل ورحمة كلها ومصالح وحكمة، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل».
فعندما يموت الدين الحق فى حياة الناس تحيا الطقوس والأشكال المجردة من كل معنى، وتغيب حيوية النصوص الشرعية تحت وطأة الشعارات التى تدغدغ العواطف ولا تجلب إلا الكوارث، فيتوارى الإيمان لتطغى عليه الحماسة الدينية الهشة التى لا تخالط القلوب فيتحول الدين باسمها لرسوم وأشكال جامدة لا روح فيها، ويتوارى الاهتمام بالجوهر على حساب المظهر وصلاح القلوب من أجل لافتات خادعة، ويظهر الذين يدَّعون تجديد الدين وهم يريدون تبديده، وتتوارى المصالح العليا للأمة تحت لافتات الحزبية والقبلية، ويظهر الغلو والتطرف والتكفير وإقصاء الآخر، ولا ينظر أحد إلى حكمة ومقصد النصوص، وأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
سلام على عيسى ومحمد والأنبياء أجمعين فى عليين.