(1)
أثناء زيارتى إلى اليابان.. قمتُ بزيارة مدرسة أياهارا الابتدائية فى مدينة كاواساكى محافظة طوكيو. كانت تجربة رائعة.. بلا حدود. قرابة الساعة قضيتُها فى السيارة من وسط العاصمة إلى المدرسة الحكومية. التقيتُ مدير المدرسة عند المدخل.. ثم انضمّ عدد من المدرسين.. ثم بدأتُ جولة ممتعة من طابقٍ إلى طابق، ومن فصلٍ إلى فصل.
خلعنا الأحذية وارتدينا أحذيةً خفيفة سلَّمتها إلينا إدارة المدرسة. التلاميذ أيضاً يضعون أحذيتهم فى أرفف خشبية تشبه مخازن الأحذية فى المساجد الكبرى فى القاهرة. يضع التلاميذ أيضاً حقائبهم فى مكان مخصص داخل ممرات الفصول.. حتى لا يحملوها معهم طوال الوقت.
بالقرب من موقع الحقائب تتراصّ صنابير المياه والصابون.. فيما يشبه صالة الوضوء فى المساجد المصريّة.. حيث يغسل التلاميذ أياديهم بانتظام.. ضمن منظومة نظافة.. تمتد إلى تنظيف الفصول.. من «الكنْس» إلى «مسح الأرضيات».
يتعلم التلاميذ فى المدرسة أن نظافة غرفتهم فى منازلهم ليست مسئولية والدتهم.. بل مسئوليتهم هُم. كما يتعلَّمون أن المدرسة هى مجتمع كامل.. يتوسع لاحقاً.. حيث يصبح عضو المجتمع المدرسى حين يتخرج.. عضواً فى المجتمع الكبير.
(2)
قال لى مدير المدرسة: إن مدرسة أياهارا الابتدائية تأسست قبل ثلاثين عاماً، وبها مسرح كبير وملعب يتسع لمئات التلاميذ. ولقد لاحظتُ أنَّهُ لم يتم الإنفاق الكبير على الأثاث المدرسى.. وتتميز مرافق المدرسة بالجودة والكفاءة.. لا الفخامة والإنفاق.
إن مدرسة أياهارا لا تشبه المدارس البرجوازية المصرية.. حيث تتنافس العائلات على إظهار الثراء والوجاهة.. إذْ تبدو معظم المدارس الثرية فى مصر.. وكأنها أجزاء من منتجعات سياحية لا مؤسسات تعليمية.
شاهدت فى مدرسة أياهارا بطوكيو.. سبورة عاديّة لا سبورة ذكيّة.. يكتب التلاميذ بأياديهم.. ولم أشاهد أى استعراض للكمبيوتر أو الأجهزة الإلكترونية المتقدمة.
أخذت اليابان من التعليم القديم: القراءة والحساب والسلوك.. ثم أخذت من التعليم الحديث المناهج والأنشطة وأساليب التدريس. يُطلق اليابانيون على نظامهم التعليمى اسم «التوكاتسو».. وتقوم فلسفة التوكاتسو على: المسئولية، والعمل الجماعى.. والانتماء للمجتمع والدولة.
لقد كان مبهراً.. تلك الأخلاق التى أبداها تلاميذ المدارس.. حتى فى الأزمات الكبرى. وحين وقعت زلازل سابقة.. لم يتدافع التلاميذ، ولم يصطدموا من أجل النجاة.. بل اتبعوا التعليمات، والتزموا بمبادئ العمل الجماعى.. أو مبادئ التوكاتسو.
لا يهدف التعليم اليابانى إلى الرياء الاجتماعى.. بل إلى تعظيم قيمة العمل والإنتاج.. وأن يكون للإنسان دورٌ وقيمة.
(3)
فى فصل الموسيقى استقبلَنا التلاميذ باللغة العربية: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وضعوا النوتة الموسيقية أمامهم وقاموا بعزف مقاطع رائعة. على الحائط صور كبار الموسيقيين فى العالم.. وسطور موجزة عن حياتهم. مُدرِّسة الموسيقى التى استقبلتنا كانت مبتسمة دائماً وكذلك التلاميذ.. كأنهم يعزفون معاً سيمفونية الحياة.
إن نظام التعليم اليابانى «التوكاتسو» هو نظام بسيط ومنطقى. إنه فى رأيى يتلخص فى أربع كلمات: النظافة والنظام من حيث الشكل.. والمنهج والمدرس من حيث المضمون. إنَّهُ على ذلك ليس جديداً على ماضى التعليم القوى فى مصر.. لكن تدهور التعليم فى العقود الأخيرة جعل الأمر يبدو كمعجزة.
إن اليابان تعيدنا إلى حيث كنّا.. وكانت مدارسنا وكان مدرِّسونا.. يوم تخرج حائزو نوبل من قلب التعليم الحكومى.. ومن قلب المدارس العامة. وقبل أن يصبح التعليم الخاص مكاناً لاستعراض الثراء لا العلم، والمكانة لا المعرفة.
أستطيع القول إن نظام التعليم اليابانى «التوكاتسو» هو «سوفت وير» وليس «هارد وير».. هو إدارة وليس إنفاقاً. أو حسب مفردات جمال حمدان.. إنه المعنى وليس المبنى. نظام التعليم اليابانى هو الأقرب لثقافتنا وقيمنا.. وهو الأنسب لمجتمعنا وتاريخنا.. مصر تحتاج إلى تعليم جادّ وليس إلى تعليم فاخر.. يجب أن ندعم «التوكاتسو» فى مصر.
لقد نجحت اليابان فى تحقيق المعجزة بعد الحرب العالمية الثانية.. خرجت من دمار كل شىء إلى إصلاح كل شىء.. الإمبراطورية اليابانية تمنحنا الأمل.