كنا فى جلسة عائلية، نتبادل أطراف الحديث مع هذين الزوجين الشابين المتعلمين تعليماً جيداً، حينما اشتكت الزوجة من أن ولديها، اللذين أفرطا فى الفترة الأخيرة فى التعرض لأفلام «كرتون» أطفال، يتحدث أبطالها بالعربية الفصحى، أصبحا يكثران من التلفظ بعبارات فصحى «أكثر من اللازم»، وقد سألت سؤال الراغب فى إيجاد حل لمشكلة: «ماذا نفعل؟».
لا تعرف هذه الزوجة الطيبة موضع اللغة فى كيان الأمم ودورها فى صيانة وجودها وإدراك مستقبلها، ويبدو أنها أيضاً لا تعرف مستخلصات بحث مهم أجرته باحثة اللغويات المرموقة «ليرا بورودوتسكى»، وهو البحث الذى خلص إلى الربط بين اندثار لغة الجماعة أو تهافتها وشيوع احتقارها من جانب، وبين اندثار تلك الجماعة من جانب آخر.
لم تقرأ هذه الأم الطيبة الكثير من الدراسات والبحوث التى أثبتت أن اللغة من العناصر الرئيسية فى تشكيل الهوية، وأن لغة جامعة ذات مقام موقر ونفاذ شائع تربط بين عقل الفرد ومدركاته، وتؤسس لتواصل ندى ومتكافئ مع العالم.
فى 18 ديسمبر الحالى، احتفل العالم باليوم العالمى للغة العربية، باعتبارها اللغة التى يتحدث بها أكثر من 422 مليون نسمة، فى المنطقة العربية، كما يتحدث بها آخرون فى الأحواز، وتركيا، وتشاد، ومالى، والسنغال، وإريتريا، ومناطق أخرى من العالم.
اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة، فى هذا اليوم تحديداً من العام 1973، باللغة العربية كإحدى لغات العمل فى هذه المنظمة الأممية، لكونها أكثر لغات المجموعة السامية انتشاراً، وواحدة من أكثر لغات العالم رواجاً، لكن هذه الأم الطيبة تسأل مُحرجة من تخاطب طفليها بالفصحى: «ماذا أفعل؟».
اللغة العربية الفصحى هى لغة القرآن والحديث الشريف، التى يتعبد بها مئات الملايين، من المسلمين العرب وغير العرب، فى المساجد والبيوت، وهى لغة يستخدمها أيضاً بعض المسيحيين فى صلواتهم، كما كُتبت بها بعض الكتابات الدينية اليهودية، فضلاً عن كونها وعاءً لا ينضب لملايين الصفحات من الإبداعات الأدبية والفنية والأعمال العلمية التى دُونت على مدى التاريخ.
ومع ذلك الاعتبار المقدر والتاريخ الموقر والجماهيرية الواسعة، تنزوى الفصحى مُهانة وعرضة للتشكيك، وتتضاءل المساحات التى تحتلها فى حياتنا الاتصالية يوماً بعد يوم.
عندما تكون حاضراً فى مؤتمر يضم العشرات من مختلف الجنسيات، وتجد الألمانى يتحدث بالألمانية، والتركى يتحدث بالتركية، والفرنسى يتحدث بالفرنسية، والعربى يتحدث بالإنجليزية، عليك أن تسأل: لماذا؟
ثمة خمسة أسباب جوهرية يمكن أن تفسر لنا تلك الحالة الهزلية، أولها أن اللغة العربية لم تعد لغة علم، بمعنى أن نصيب تلك اللغة فى الإسهام العلمى العالمى متراجع باطراد.
عندما تخفق أمة فى إنتاج البحوث والدراسات بلغتها، فإنها تكون قد خطت الخطوة الأولى نحو إرسال تلك اللغة إلى المتاحف.
أما السبب الثانى، فيتعلق بالمساحة المتزايدة التى تحتلها اللغة العامية فى المجال العام فى دول العالم العربى، فمع سيادة النزعة «اللهجية»، وتكريس اعتماد اللغات المحلية فى الأوساط المختلفة، يقل اعتبار اللغة الفصحى.
لقد حدث شىء شبيه بذلك للغة اللاتينية، التى كانت لغة شعوب الشمال بامتياز، حتى تنوعت اللهجات العامية، وزاد تطورها، واتسع حجم الاعتماد عليها فى أنشطة التواصل المحلية، فنشأت اللغات الأوروبية الحديثة، وذهبت اللاتينية إلى المتحف.
ويبرز السبب الثالث فيما توصل إليه العالم الألمانى «فلوريان كولماس»، الذى ربط فى بحث شهير نشره فى العام 1992 بين التنمية الاقتصادية فى مجتمع ما، ودرجة نفاذ لغته واعتبارها.
فقد أثبت «كولماس» أن هناك رابطاً بين قدرة الدولة على تحقيق معدلات تنمية اقتصادية كبيرة ومطردة، وبين قدرتها على صيانة لغتها وتكريس احترامها وإشاعتها بين أمم أخرى.
لم تكن الصين قد حققت طفرتها الاقتصادية الكبيرة حين أصدر «كولماس» بحثه، لكن المثل الصينى يقدم دليلاً على نجاعة ذلك الطرح، الذى سبق أن اختبرناه مع اللغة الإنجليزية، التى باتت لغة العلم، واحتلت مكانتها السامقة والمؤثرة عالمياً، لأسباب كثيرة، لعل أهمها التنمية الاقتصادية، والازدهار العلمى فى بريطانيا والولايات المتحدة.
ولأن «المغلوب مولع بتقليد الغالب» كما قال «ابن خلدون» منذ قرون، فقد أصبحنا نتباهى بمعرفة الإنجليزية، ويتعمد بعض أبنائنا إظهار عدم القدرة على الفهم أو التواصل بالعربية، كدليل على الرفعة والتميز.
فى هذا الشعور بالضآلة والانهزام أمام «الغالب» الغربى، يكمن السبب الرابع فى تضعضع لغتنا العربية وأزمتها، إذ بات التنصل منها عنواناً للتفوق، وأضحى التمسك بها دليلاً على البؤس.
ثمة سبب خامس لا يقل أهمية عن سابقيه، رغم أن كثيرين لم ينتبهوا إليه، فوفق ما أعلنته «اليونيسكو»، يقرأ كل 80 عربياً كتاباً، بينما يقرأ الأوروبى 35 كتاباً، والإسرائيلى 40 كتاباً، فى السنة الواحدة. ومقابل كل 6 دقائق يقرأها العربى سنوياً، فإن الأوروبى يقرأ 20 ساعة، كما تؤكد مؤسسة الفكر العربى.
نفهم من ذلك أن العرب لا يقرأون الكتب، لكنهم مع ذلك أظهروا نشاطاً لافتاً فى استخدام وسائط التواصل الاجتماعى، حتى إن أرقام التفاعل مع هذه الوسائط تمنح العرب مكانة متقاربة جداً مع نظرائهم فى مناطق العالم المختلفة بما فيها أوروبا والولايات المتحدة، ومن ذلك مثلاً أن عدد مستخدمى «فيس بوك» فى مصر يماثل تقريباً عددهم فى المملكة المتحدة.
ذهب العرب إذن إلى مواقع التواصل الاجتماعى، فماذا عن اللغة العربية الفصحى فيها؟
سأترك لك الإجابة.
وأخيراً، يبرز سؤالان مهمان: لماذا يجب أن نحرص على صيانة وجود اللغة العربية الفصحى واستدامتها وتطورها؟
والإجابة: لأن اللغة عنصر أساسى من عناصر الهوية، وطريقة وحيدة لاتصال العقل بالعالم، ورابط فعال بين العقل والإدراك، وهى عامل مشترك يعزز لحمة الأمة التى ننتمى إليها، ويحفظ ثقافتنا وتاريخنا وتراثنا.
أما السؤال الثانى فيتعلق بما يتوجب علينا فعله لمواجهة هذه الأزمة، والإجابة ببساطة أن هذا الأمر لا يُنجز من دون إرادة سياسية، مبنية على إدراك وتبصر، تقود إلى سن قوانين فعالة، كما فعلت فرنسا، وتركيا، وغيرهما من دول العالم، والأهم من ذلك أن نُرقى إنتاجنا العلمى والمعرفى، وأن نطور نمونا الاقتصادى، وأن نتخلص من شعور المغلوب المُستلَب للغالب ولغته.