نشر الكاتب الكبير الدكتور محمود خليل مقالاً، فى جريدة «الوطن»، بعنوان: «4 أقمشة لوعّاظ الفضائيات»، صنف فيه ما سماه «وعاظ الفضائيات» إلى أربعة أنواع، الأول يركز على المضمون الأسرى، وذكر من أبرز دعاته الدكتورين «مبروك عطية» و«سعاد صالح»، والثانى يهتم بالمضمون التفقيهى، لشرح المسائل العقائدية وشئون العبادات بنقل ما تحتويه بطون كتب الفقه، ونموذجه بعض الدارسين بالأزهر، والثالث يهتم بالمضمون التشخيصى، الذى يهدف إلى عرض نماذج مضيئة من التاريخ الإسلامى، ونموذجه «عمرو خالد»، والرابع المضمون الشبابى الذى يريد أن يجعل الدين جزءاً من حياته، ويعتمد على فكرة «الاستمتاع بالحياة» مع ضمان الجنة، باعتبار أن الإسلام لا يتنافى مع العصرية، ويمثل هذا النوع عدد من الدعاة.
وواضح أن الدكتور بتقسيمه هذا يرفض الأنواع السابقة، لأنها وإن سدت ثغرة من الثغرات فإنها تركت ثغرات كثيرة مفتوحة، ولأن الكاتب مهتم فى مقاله بالخطاب الدينى وتجديده وتتبع مسارات الفكر والتاريخ الإسلامى فإنى أستدرك عليه نوعاً خامساً غفل عن ذكره، ألا هو علماء «المضمون الحضارى»، لا أقول عليهم «وعاظ الفضائيات» ولا «شيوخ الفضائيات»، لأنهم وإن ظهروا فى الفضائيات المختلفة فإن الشاشة بالنسبة لهم ما هى إلا أداة يؤدون من خلالها واجب الوقت، ثم يظل مشروعهم العلمى والفكرى الحضارى يظهر فى الكتب والدروس والمحاضرات والمشروعات العلمية المختلفة.
هؤلاء هم الذين قدموا فى خطابهم مضموناً حضارياً، ركزوا فيه على قضية الوعى بالقيم وبالوطن وبالثقافة، وغاصوا فى العقل العربى والمصرى واكتشفوا كنوزه، واهتموا بالحب والجمال والتزكية والأخلاق والنهضة والعمارة وسمات العصر ومناهج التعليم والحكمة وإنسانية الدين وإدراك الواقع وبناء المعرفة وصناعة الحضارة، ولم يكُن فى الوقت نفسه مشروعهم العلمى منقطع الصلة عن المشكلات الأسرية والاجتماعية، ولم يكن منفصلاً عن إفتاء الناس وبيان أحكام الدين فيما يسألون فيه، ولا منقطعاً عن خطاب الشباب وإنقاذهم من براثن الانحراف بأنواعه، خاصة انحراف التيارات الإسلامية المتطرفة.
وقف علماء المضمون الحضارى للدين ضد خطورة التعالم وأثره فى الانحراف، وشرحوا معالم وقواعد منهج النظر والتلقى، وجعلوا فقه المقاصد والسنن الإلهية وإدراك الواقع والتعارف من الفقه الأكبر الذى لا يستقيم العلم من دونه، ومدرسة المضمون الحضارى لم تعطل نعمة النظر فى العلم، ولم تنظر إلى التراث على أنه جثث محنطة لا يجوز نقده، كما لم ترفضه بالهوى، وإنما غربلته وأحالته إلى حى متوقد، وأخرجت كنوزه الدفينة.
لقد ركز علماء المضمون الحضارى فى مصر على معالم وأركان الشخصية المصرية وعملوا على الحفر والتنقيب عن التجربة المصرية العريقة فى التعامل مع الأزمات، ولكى لا يكون الكلام مجرداً فأمامنا عدد من النماذج لهذا النوع، وهذا النموذج -لأنه يشمل مضموناً حضارياً جامعاً- لم يتوقف عند أسماء أشخاص بعينهم، بل امتد ليكون مدرسة علمية متكاملة ينتشر تلاميذها شرقاً وغرباً ممن هم أزهريون (شهادة ومنهجاً) أو أزهريون (منهجاً لا شهادة)، ويمثل هذا النموذج الدكتور محمد رمضان البوطى، والدكتور على جمعة، والشيخ عبدالله بن بيه، والحبيب على الجفرى، والدكتور أسامة الأزهرى، ولو أخذنا الأخير نموذجاً فانظر مثلاً حلقته الأخيرة من برنامج «رؤى» على قناة dmc التى تحدث فيها عن على مبارك باشا ومعارفه وخبراته الهندسية وأعماله الخالدة التى ظلت نبعاً للعمران والمعرفة، وشرح كيف أنه حفر فى تاريخ الوطن معنى العلم والعمران وصناعة الحضارة، وأنه اخترق الصعاب وخرج من الإحباط ليكون نافعاً لوطنه... هذه هى مدرسة المضمون الحضارى التى نسيها الدكتور «خليل».