الخمر فى اللغة هى «ما أسكر من الشراب وعصير العنب ونحوه، لأنها تغطى العقل». وهناك اتفاق على أن كل المواد المسكرة، أياً كان مصدرها، فهى محرمة، ولا يجوز تعاطى الكثير منها أو القليل. تحريم تلك المواد واضح وضوح الشمس فى فتاوى رجال الدين الإسلامى.. لكن ماذا عن «الفكر» إذا كان له ذات المفعول المغيب للعقل، بل أكثر وطأة؟
الفكر الذى يشكل الخطاب الدينى يغطى العقل، وربما يلغيه تماماً فى بعض الأحيان. ويحدث هذا بطرق متباينة، منها ما هو مباشر (يقول هذا صراحة)، ومنها ما هو غير مباشر (يمتدح العقل ويقول إنه لا يمكن أن يتعارض مع الدين، ثم يطلب منك أن تغلق عقلك مع أول تعارض يلوح فى ذهنك).
والمثير للتأمل، والدهشة، أنك ستجد هذا الفكر واضحاً فى خطاب غالبية كبار علماء الأزهر وأكثرهم حداثة ووسطية، نزولاً إلى تيارات الإسلام السياسى بتنظيماتها الانتهازية المتباينة، انحداراً إلى أكثر الجهاديين تشدداً وجاهلية.
وقد تلاحظ أن هذا الخطاب الدينى أصبح نهراً فياضاً من «الخمر الحلال» التى يجوز لنا أن ننهل منها دون شعور بالذنب، لتغيب عقولنا فى طمأنينة مقدسة، ولا يهم أن نضل الطريق، فالتبريرات جاهزة، ولا ضير من أن نعترف أننا لم نصبح «خير أمة أخرجت للناس»، سيقولون لك إن الحل هو أن تشرب المزيد من هذه «الخمر الحلال» حتى تصبح مسلماً صالحاً.
ولا يتسع المجال لذكر الكثير من الأمثلة التوضيحية لهذا الخطاب التغييبى، لكن سأكتفى هنا بذكر كتاب واحد، حين تطالعه سوف تشعر أنك سمعت مضمونه فى العديد من الخطب، والدروس، والبرامج الدينية، بصيغ مختلفة. والكتاب بعنوان «الإسلام والعقل» لفضيلة الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الأزهر، رحمه الله وغفر له.
الكتاب الذى يضم قرابة 240 صفحة مخصص بالكامل لإثبات أننا لا يجب أن نعتمد على العقل فى عدة مسائل، وهى: الأمور المتعلقة بما وراء الطبيعة (مثل العقائد، والرسل، والآخرة، والمسائل الغيبية بشكل عام)، والأخلاق (سلوك الإنسان وما يجب أن يفعله وما يجب ألا يفعله)، والتشريع (الذى ينظم به المجتمع وتسعد به الإنسانية).
يعنى، بكلمات أكثر صراحة، لا يجب أن تشغل عقلك فى أى شىء تقريباً.
ويقول فضيلته: «إنه لو ترك الناس وعقولهم فى هذه المسائل فإنهم يختلفون ويتفرقون فرقاً عديدة، ويتنازعون، ولا ينتهى الأمر بهم إلى الوحدة والانسجام. ولا إلى الهدوء والطمأنينة».
واللافت أن الشيخ (رحمه الله)، لم ينتقد الفلاسفة الذين يعتمدون على عقولهم المجردة فحسب، بل انتقد أيضاً بعض الباحثين الذين رأوا أن «القرآن هو كتاب العقل، وأنه بأكمله: دعوة صارخة لتحرير العقل من عقاله، وأنه يدعونا، بعبارات تختلف فى أسلوبها وتتحد فى معناها، إلى استعمال العقل ووزن كل شىء بميزانه، وأنه يترك لنا الحرية فى أن نعتقد ما يرشد إليه عقلنا، وأن نتبع السبيل الذى ينيره منطقنا أو يهدينا إليه تفكيرنا».
وهؤلاء -كما يشير شيخ الأزهر الراحل فى كتابه- استندوا إلى آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، ومواقف لصحابة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولمفكرين إسلاميين.
وينكر فضيلته عليهم فكرهم هذا، رغم أنهم لم يعتمدوا على عقلهم المجرد فيما وصلوا إليه، بل استندوا إلى نصوص القرآن، والسنة، والتراث الدينى، التى يدعو فضيلته إلى أن نهتدى بها حتى لا تضل عقولنا المجردة.
ثم يرد عليهم الشيخ بنصوص تدعم وجهة نظره من ذات المنبع الذى استقى منه هؤلاء الباحثون حججهم، ويقدم ما وصل إليه عقله، ويقول إن هذا هو الصراط المستقيم، على الرغم من أنه قال فى موضع آخر: «إن هذا الذى نقرأه فى تاريخ الفكر البشرى عن عجز العقل فى مجال العقائد، وفى مجال الأخلاق، يدل فى صورة سافرة على أن كل من يأمل أن يصل إلى يقين عقلى فى ذلك، فإنه مغرور».
ومع وجود النص الدينى، فإن فضيلة الشيخ، بل والأئمة الأربعة، ومن سبقهم من المسلمين، لم يتفقوا على كل الأمور، بل إن الصحابة الذين نزل فيهم القرآن، وعاش النبى بينهم، اختلفوا، ووصل خلافهم فى مرحلة متقدمة من التاريخ الإسلامى إلى فتنة كبرى سُفكت فيها دماء الكثير منهم.
الفرق، هنا، هو أن معارك الأشخاص الذين يعترفون بأنهم يستخدمون عقولهم (التى قد تخطئ أو تصيب)، هى معارك فكرية، كلامية، قابلة للأخذ والرد وتبادل الأفكار والخبرات والرؤى، حتى ولو اهتدوا بالقرآن والسنة فإنهم يعلمون أنهم فى نهاية المطاف قدموا فهمهم هم لنصوصهما، وأعملوا عقولهم فيها، ومن ثم فإن نتاج فكرهم هذا قابل للأخذ والرد.
أما من يشربون «الخمر الحلال» ويستعذبونها، ويتقبلون أن تغطى عقولهم، فإنهم يعتبرون خلافهم حرباً مقدسة، على الرغم من أن العقل البشرى هو الذى ينتقى النصوص الدينية، وهو الذى يصنفها، وهو الذى يفهمها، ثم يقدم ثمرة جهده.
إن اعتقاد هذا الفريق الأخير بأن ما يقدمه هو «صحيح الدين» لا يمنح أى قدسية لثمرة عقله البشرى، فالاعتقاد مهما بلغت قوته يظل مجرد اعتقاد، وليس هو الحقيقة المطلقة.
ولو كان الأمر بيدى لجرّمت هذه «الخمر الحلال» ومنعت تداولها فى المجتمع، فهى أكثر ضرراً من الخمر التقليدية.
فلو كان شارب الخمر العادية يمكن أن يرتكب كل المعاصى أثناء سكره، ثم يندم ويتوب حين يفيق، وقد يصبح عضواً نافعاً لمجتمعه، فإن شارب «الخمر الحلال»، بمقدوره أن يرتكب كل الجرائم، ما دام حياً، وضميره مرتاح، فهو يعتقد اعتقاداً مطلقاً بأنه يتبع «الدين»، وعقله غائب غيبة مقدسة لا يفيق منها، إلى أن يلقى الله ويحاسبه على العقل الذى وهبه إياه، وميزه به عن الحيوان، ثم قرر هو أن يعطله بإرادته.