بغض النظر عن التقييمات الأخلاقية لمذبحة المماليك التى وقعت أحداثها أوائل مارس عام 1811، إلا أن أحداً لا يستطيع أن يقفز على أهميتها كخطوة رئيسية من الخطوات التى أقدم عليها محمد على لتثبيت دعائم حكمه. مثّل المماليك فى ذلك الوقت بقايا النخبة الحاكمة للنظام الذى ثار عليه الشعب عام 1805، وتمتعوا بشوكة قوية، بما يمتلكون من سلاح ومال ورجال، والأخطر من ذلك العلاقات التى كانت تربطهم بقوى خارجية. ومنذ توليه الحكم شكَّل المماليك جيب نقمة وقوة منافسة لمحمد على، وتوالت مخططاتهم من أجل الإطاحة به، وكما بدا هذا الأمر طبيعياً من جانب المماليك الذين أزعجهم جلوس الوالى الجديد على كرسى السلطة الذى كان فى أيديهم، فقد كانت خطوة محمد على أيضاً طبيعية طبقاً لدروس التاريخ التى تؤكد أن من الصعب على الحاكم -أى حاكم- أن يترك منافساً له على السلطة دون العمل على التخلص منه.
نحر محمد على المماليك بالسيوف والبنادق فى مذبحة القلعة الشهيرة، وقتل المئات منهم، لكن الظاهرة المملوكية فى حد ذاتها لم تنتهِ، فقد تمكنت بقايا الجيب المملوكى من جمع أشتاتها، ولملمة نفسها، وأعادت صياغة دورها فى دولاب الإدارة بمصر والعديد من الدول العربية، بصورة مكنتها من الاستمرار والبقاء، وحتى بعد أن زال المماليك تماماً، بقيت الظاهرة المملوكية أساساً للإدارة فى مصر وغيرها من الدول العربية. فمنطق الشللية هو منطق مملوكى بامتياز تستطيع أن تجده سائداً فى الكثير من المؤسسات والمجتمعات العربية، وكذا كان يعمل المماليك كمجموعة من الشلل المغلقة التى تربطها علاقات مصالح مشتركة، وكذلك سمة التآمر أو بالتعبير المملوكى «ضرب المهاميز»، كانت من السمات الأساسية التى حكمت تنافُس المماليك على السيطرة على دولاب الدولة، وتكامل معها سمة «النفاق للقيادات»، ومحاولة إسماعهم ما يريدون سماعه، وليس ما يصب فى خانة تجويد الأداء وإصلاح الشأن العام. وبإمكان من يريد معرفة تفاصيل أكثر عن «الأداء المملوكى» أن يراجع كتاب «تراث العبيد» لمؤلفه «ع.ع».
تمكن محمد على من القضاء على المماليك كأشخاص أو ككيان منافس على الحكم عام 1811، لكنه لم يستطِع القضاء على «الفكرة المملوكية» فى ذاتها، فقد ظلت قائمة وفاعلة فى الواقع بعد وفاة الرجل بقرون. والعقل يقول إن استمرار أى فكرة يعكس نوعاً من الحاجة إليها، لأن الأفكار الشاذة وغير الواقعية سرعان ما يتخلص المجتمع منها، وبذلك يمكن القول بأن الفكرة المملوكية تواصلت فى الواقعين المصرى والعربى، لأن الكثير ممن يتصدرون المشهد فى مواقع عديدة، يجدون أنفسهم فى حاجة إليها، وينظرون إليها كآلية مفيدة من آليات السيطرة، وبالتالى فقد يقضى أى نظام جديد على الشخوص المملوكية الممثلة للنظام السابق عليه، لكن سرعان ما تعيد الفكرة تشكيل نفسها فى شخوص جديدة، وكأنها «لا تفنى ولا تستحدث من عدم»!.