بينما تلملم 2018 متعلقاتها لتستعد للرحيل، تنشط الجردات وتتأجج التقييمات وتتواتر الحسابات العسيرة لعام مضى والترتيبات اليسيرة لعام مقبل، الظريف والمثير هو أن هذه التقييمات والحسابات يقوم بها الجميع لتقييم الآخرين، أما تقييم النفس أو الأداء الشخصى فهو أمر غير وارد، الوارد فقط فى عرفنا المصرى هو أن يقوم كل منا بحساب الآخر، سواء كان الآخر شخصاً أو مؤسسة أو وزارة أو دولة أو حاكماً أو حتى منظمة أممية.
استمعت رغماً عنى لحديث محتدم دارت رحاه بين مجموعة من الأصدقاء حول أداء الولايات المتحدة الأمريكية خلال عام 2018 على أصعدة داخلية وخارجية، ورد فعل روسيا، وانصياع بريطانيا، ومحاولة تحلل فرنسا من التبعية، وحيرة إيطاليا، وابتعاد إسبانيا، وعزلة الدول الإسكندنافية، وأمعن كل منهم فى تقييم أداء هذا الرئيس وتلك رئيسة الوزراء وهذه الدول والأنظمة، وبين المفروض وغير المفروض، وما كان ينبغى عمله وما لم يكن ينبغى أن يحدث أبداً، شعرت مع نهاية الجلسة أن حكماء السياسة الدولية وشيوخ الاستراتيجية الأممية وخبراء العلوم الجيوسياسية والسوسيو اجتماعية قد تجمعوا على المقهى الصغير فى شارع قصر العينى.
وبينما عين المصريين مركزة على عام جديد، إذ ربما يحمل قدراً من البحبوحة وكماً ولو ضئيلاً من الانفراجة، تبدو العين الأخرى مغمضة تماماً أمام ما يمكن عمله من أجل الوصول لهذه البحبوحة، شكاوى عدة وتظلمات كثيرة تسمعها أينما ذهبت، «كان عاماً صعباً»، «الأسعار تضاعفت غير مرة خلال العام»، «فساد الذمم وصل مستويات غير مسبوقة»، «وآخرتها إيه؟!».
«آخرتها إيه» هذا السؤال الذى لا نتوقف عن سؤاله فى مثل هذه الأوقات من نهاية كل عام، وهو سؤال يحمل الكثير من الأسى المشوب بالاشتياق إلى الخروج من عنق الزجاجة المزنوقين فيه منذ ما لا يقل عن أربعة عقود، ولنا كل الحق فى السؤال لا سيما بعد ما أعيانا الانتظار، وبينما نحن منتظرون، قلما نسأل أنفسنا عن مكامن الفساد فى أنفسنا، فسائق التاكسى الذى يدعى تعطل العداد، وموظف المصلحة العمومية المصر على استمرار فتح الدرج شرطاً لإنهاء مصالح المواطنين، وأمين الشرطة الذى لم يفكر يوماً فى التوقف عن قبول الـ50 جنيهاً المطوية أسفل الرخصة، والمعلم الذى لا يجد حرجاً فى ترشيد مجهوده فى الفصل وتوفيره للسنتر أو الدرس الخصوصى، وغيرهم من المواطنين -كل فى مجاله- لا يجدون حرجاً فى التبرم من الفساد والدعاء على أولئك الذين لا يراعون الأحوال ولا يتقون الله فى أعمالهم.
رفضنا التام وتجاهلنا الزؤام لحقيقة مفادها أن تفشى الفساد بيننا سببه أن بيننا الكثيرين من الفاسدين يمر مع مرور نهاية كل عام مرور الكرام، يعنى أننا مع نهاية 2019، و2090 و2900 سنظل نلوم آخرين على فسادهم، متمنين أن يأتى العام الجديد حاملاً الخلاص لنا.
خلاصنا من تنصيب أنفسنا حراساً على الأخلاق برفع قضية على فنانة لأنها ارتدت فستاناً غير لائق، أو إطلاق دعوة لاغتصاب من ترتدى بنطلون جينز مقطوعاً، واعتبار أخلاقنا هى الأرقى والأفضل لمجرد أننا ننتمى لدين دون آخر، ورغم أنف نسب التحرش المستفحلة فى كل ركن من أركاننا، وإغماض أعيننا عن كل ما قد يعنى أن لدينا مشكلات أخلاقية ما دام المظهر العام متحفظاً سيمثل بداية جيدة لعام جديد إن أردنا، والاعتراف بأننا أسياد العالم فى التنظير، وأمراء الكوكب فى إصدار الأحكام المسبقة، وحكماء الكون فى انتقاد كل همسة ولمسة أيضاً قد تشكل بداية موفقة للعام الجديد.
عام 2018 كان بالفعل عاماً صعباً من الناحية الاقتصادية، وعلى الأرجح سيكون عام 2019 على القدر نفسه من الصعوبة إن لم يكن أصعب، لكن مصر باتت أكثر استقراراً وأقل إرهاباً، صحيح أن الوضع السياسى يحتاج إنعاشاً سريعاً واستفاقة حقيقية، إلا أن ذلك لا يعنى أن نستمر فى تنظيرنا الخالى من العمل، وازدواجيتنا القائمة على الفصل بين الجوهر والمظهر، عام جديد سعيد بتنظير أقل وربما عمل أكثر وازدواجية أخف.