كأنها موعودة بالخيانة والتسليم.. إنها بغداد عاصمة الخلافة العباسية لمئات السنين، والعاصمة الحالية لدولة العراق. يستهدفها الغزاة فيخرج حكامها وقادتها ووزراؤها مطمئنين شعبهم بأن كل شىء على ما يرام، وأن العدو ينسحق أمام الأماجد والأشاوس من مقاتليهم، فينام الشعب، ليصحو فى اليوم التالى على كارثة سقوط بغداد واحتلال البلاد، حدث ذلك أيام التتار، وتكرر أيام الغزو الأمريكى عام 2003. عندما قرر المغول غزو العراق كانت الدولة العباسية تعيش مرحلة الشيخوخة، فقد مضى على نشأتها أكثر من 5 قرون من الزمان، فضعفت وتحللت، وأصبحت تُدار بمعرفة الخونة والأفاقين. ويبدو أن ذلك مصير أى سلطة تشيخ فى موقعها. مؤكد أن هناك عوامل موضوعية عديدة تفسر سقوط بغداد فى يد المغول عام 656هـ، لكن تظل الخيانة عاملاً أشهر وأبرز بين منظومة العوامل تلك. كان «ابن العلقمى» كلمة السر الكبرى فى سقوط عاصمة الخلافة العباسية. و«ابن العلقمى» هو مؤيد الدين أبوطالب محمد بن أحمد بن على بن محمد العلقمى، ويصفه «ابن كثير»: بـ«المشئوم على نفسه وعلى أهل بغداد، الذى لم يعصم المستعصم فى وزارته، فإنه لم يكن وزير صدق ولا مرضى الطريقة، فإنه هو الذى أعان على المسلمين فى قضية هولاكو وجنوده، قبحه الله وإياهم». «ابن كثير» يقبح ويدعو الله بتقبيح «ابن العلقمى» وينسى الخليفة المستعصم بالله الذى عيّنه وزيراً عام 642هـ.
يفسر «ابن كثير» خيانة «ابن العلقمى» لدولة الخلافة العباسية بتشيّعه وغضبه الشديد لما آل إليه حال الشيعة فى العراق، بعد تلك الفتنة العظيمة التى وقعت بين الرافضة (وصف يطلقه أهل السنة على الشيعة)، وأهل السنة عام 655هـ، فنهب الكرخ ودور الرافضة حتى دور أقارب الوزير ابن العلقمى، وكان ذلك من أقوى الأسباب فى ممالأته للتتار. ونحن لا نُقلل بالطبع من الدور الذى لعبه الصراع الطائفى والمذهبى فى إسقاط الدولة العباسية، لكن التعلق به كسبب وحيد، مع إغفال عوامل موضوعية أخرى عديدة فى تفسير سقوط عاصمة الخلافة أمر يفتقر إلى الوجاهة. وإذا سلمنا أن «ابن العلقمى» كان شيعياً على حد ما يؤكد «ابن كثير»، فلماذا يضع الخليفة حيّة غير مأمونة فى صدره؟. خيانة «ابن العلقمى» كانت واضحة وسعيه إلى تقليل عدد جنود الجيش العباسى كان معلوماً، كذلك فإن رسائله للتتار وتزويدهم بالمعلومات حول الأوضاع فى بغداد كانت تتدفّق من وراء ظهر الخليفة المشغول عن أمور الدولة، لذا كان من الطبيعى أن تسير الأمور على النحو الذى سارت إليه. كان «ابن العلقمى» من ضمن اثنين فوض إليهما هولاكو خان أمر بغداد بعد أن قرر العودة إلى محل ملكه عقب انتهائه من احتلالها، لكن القدر لم يمهله. يقول «ابن كثير»: «فلم يمهله الله ولا أهمله، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر فى مستهل جمادى الآخرة، فمات عن ثلاث وستين سنة».