إن قصة نهاية الاتحاد السوفيتى يجب ألا تكون مجالاً للتاريخ فحسب.. بل هى مجالٌ للسياسة. إن إهمال دراسة صعود وهبوط الدول، باعتباره باتَ جزءاً من الماضى.. هو تفويت الفرصة للفهم والتدبّر، وعدم تكرار أخطاء الآخرين، وأخذ العظة فى ما سبق ووقع.
كان الاتحاد السوفيتى قوة عظمى.. دولة نووية عملاقة، والدولة الأولى فى غزو الفضاء.. تحتل نصف أوروبا، وتنافس الولايات المتحدة على حُكم العالم.
لقد صدرت مؤلفات وكُتبت رسائل جامعية وتحدث كثيرون فى محاولة فهم ما جرى.. لقد أصبح الاتحاد السوفيتى «العملاق» فى سنوات قليلة.. صرحاً من خيالٍ.. فهوَى!
لقد تأملتُ كثيراً تلك الشهادة النادرة التى عرضتها قناة «روسيا اليوم» للماريشال «ديمترى يازوف» آخر وزير دفاع سوفيتى. وبرأى الماريشال السوفيتى فإن زعيم الاتحاد السوفيتى «ميخائيل جورباتشوف» كان خائناً، كما أن رئيس روسيا بوريس يلتسن كان خائناً هو الآخر.. وأن الصراع بينهما، وهو الصراع الذى أدَّى إلى سقوط الاتحاد السوفيتى.. كان صراعاً بين خائنيْن.. كلاهما يعمل ضدّ الدولة. لقد رأيت أنه من المناسب عرض الرؤى الرئيسية فى شهادة الماريشال السوفيتى.. ذلك أنها تكشف عمّا جرى.. ثم إنها تضىء على جوانب من الصراع العالمى ولعبة الأمم.
أولاً.. إصلاح الاقتصاد دون علم الاقتصاد. يروى الماريشال يازوف أنه حضر أول اجتماع بعد تولّى ميخائيل جورباتشوف السلطة فى أعقاب رحيل قسطنطين تشيرنينكو عام 1984. يقول يازوف: كان ذلك الاجتماع بعد عشرين يوماً فقط من زعامة جورباتشوف.. لم يكن قد درس حقائق الاتحاد السوفيتى ولا تفاصيل وضع الدولة. لكنه قال: إن نمو الناتج الإجمالى هو (4%) فقط.. وبالتالى يجب إعادة بناء المجتمع.
إن جورباتشوف -برأى وزير الدفاع- لا يفهم فى الاقتصاد، كما أنه لم يحاول أن يفهم الوضع العام. كانت هذه الجرأة فى القرار بعد ثلاثة أسابيع فقط!
لقد كانت النتيجة هى انهيار الاقتصاد. وفى نهاية سلطته سقطتْ الدولة، وكان الناس يأكلون بالبطاقات، وهذا لم يكن موجوداً فى الاتحاد السوفيتى من قبل.
يروى «يازوف» واقعة مذهلة: كان هناك عشاء فى السفارة الأمريكية فى موسكو: بوش الأب ووزير الخارجية جيمس بيكر، وجورباتشوف ووزير الخارجية إدوارد شيفردنادزه. ثم روى جورباتشوف إذْ فجأة نكتة سائدة فى الاتحاد السوفيتى: فى أيام بريجنيف كان يجرى توزيع الأوسمة والنياشين.. وفى عهدى يجرى توزيع بطاقات الطعام. ولمّا سأله بوش: هل أنت السبب؟ قال: لا.. إن المحاصيل الزراعية أصابها التلف!
ثانياً.. خفض الجيش. لقد قرر جورباتشوف خفض أعداد القوات المسلحة السوفيتية بعد ستة أشهر فقط من قيادته. ويقول وزير الدفاع: اقترحت عليه خفض وجود الجيش فى المرافق المدنيّة كالسكك الحديد والبناء والزراعة. وقلت له: سنقوم بخفض مئات الآلاف من هذه الأعمال غير العسكرية. لكنه قال: لا، بل يكون الخفض من المناطق العسكرية، ولم يكن باستطاعتى الرفض.. فقمتُ بإلغاء منطقتيْن عسكريتيْن. وكان ذلك عملاً عبثياً، حيث يكلّفنا العسكرى (2) روبل فى اليوم.. أىْ لا شىء تقريباً. هل يمكن القول إن هذا يسمى اقتصاداً؟!
ثالثاً.. خفض الإنتاج الحربى. يقول وزير الدفاع يازوف: قال الأمريكان لجورباتشوف: يجب خفض الإنتاج الحربى.. لماذا يُنتج الجيش الغسالات والثلاجات. وقد استجاب جورباتشوف، وكان هذا بمثابة كارثة.. ذلك أن المصانع الحربيّة كانت تشغِّل آلاف العمال.. الذين يتم استثمارهم مدنيّاً وعسكريّاً. كان مصنع مثل مصنع الأورال ينتج كل شىء. لقد تم إيقاف كل ذلك، وأصبحنا فى وضع بائس للغاية.
رابعاً.. خفض السلاح النووى. يقول الماريشال يازوف: إن جورباتشوف وافق على خفض السلاح النووى بمعدل (1200) رأس نووى لكل جانب.. نحن وأمريكا. قلنا له: المستوى ليس واحداً.. هناك (100) رأس نووى أمريكى تعادل كل الـ(6000) رأس نووى سوفيتى. ثم إن عندهم غواصات وحاملات طائرات.. ويمكن إطلاق صواريخهم من المحيط الهندى. إن أمريكا قوة بحرية عملاقة.. ونحن قوة بريّة.. صواريخنا على الأرض.. وليست لدينا حاملات طائرات. إن كل حساباتنا العسكرية تقوم على توازن قواتنا الأرضية مع قواتهم البحرية.. وتدمير هذه الرؤوس والصواريخ يؤدى إلى خلل كبير فى توازن القوى.. ويهدّد الأمن القومى تماماً. استجاب جورباتشوف لواشنطن ولم يسمع لكلامنا.. حتى الصواريخ متوسطة المدى (5000)كم تم خفضها خوفاً من تطويرها. إن القاذفة الأمريكية (B52)، التى تمتلك أمريكا منها (1500) قاذفة.. كانت القاذفة الواحدة تطلق (12) رأساً نوويّاً.. قال الأمريكان: بل رأس واحد. ووافق جورباتشوف. وحتى بعد ذلك كله.. أرسلوا لنا (14) بعثة لمراقبة تدمير أسلحتنا، وأرسلت إليهم (4) بعثات فقط.. إننا لم نذهب بالطبع إلى أى غواصات أو حاملات طائرات.
خامساً.. الاعتماد الكامل على العدو. يقول الماريشال يازوف: كانت أمريكا هى عدونا بالطبع. لكنى ذهلتُ حين قال جورباتشوف لجورج بوش الأب أمامى: سيادة الرئيس.. نريد أن نعتمد عليكم فى كل شىء فى مجال الاقتصاد. ولم يجب بوش بشىء، لكنه قال: دعنا نركِّز فى السلاح النووى أولاً.. ما يهمّنا الآن هو نزع السلاح.
لم يكن ذلك أول موقف.. بل كانت هذه مواقف جورباتشوف فى عصر ريجان. وفى قمة ريكيافيك التى حضرها جورباتشوف وريجان. اشتكى ريجان من نائب وزير الخارجية السوفيتى (نائب شيفردنادزه)، وقال لأحد مساعديه أمام جورباتشوف: ماذا إذن.. هل سنعود إلى الوطن؟ وقال وزير الخارجية جورج شولتز: سيّد جورباتشوف: العسكريون السوفيت ونائب وزير الخارجية يعرقلون المفاوضات.
يقول الماريشال يازوف: كان شيفردنادزه أمريكياً، لذلك أعطوه رئاسة جورجيا فى ما بعد، وقد قام جورباتشوف استجابة لريجان بدعم شيفردنادزه رجل واشنطن، وإقالة نائب وزير الخارجية على الفور!
سادساً.. حلّ حلف وارسو. قال وزير الدفاع السوفيتى: لقد قام جورباتشوف بحلِّ حلف وارسو دون أن أعرف وأنا وزير الدفاع. لقد جاءنى مسئول فى الوزارة وقال لى: لقد تمّ حلّ حلف وارسو. لقد منح جورباتشوف لأعضاء الحلف حق الانسحاب من المعاهدة. هكذا بقرار واحد تم حل الحلف الاستراتيجى الكبير.
سابعاً.. حلّ الاتحاد السوفيتى. يقول الماريشال يازوف: قلت لجورباتشوف: أنت قمت بخفض الجيش، وتدمير رؤوس نووية، وحلّ حلف وارسو.. والآن توقع على اتفاقية تسمح بانهيار الاتحاد السوفيتى.. ستكون لكل جمهورية.. رئيس وحرس شرف وحرس حدود.. وجيش. أنت تُقسِّم الجيش وتقسِّم البلاد. قال: لا.. وعموماً فسوف أنظر فى الأمر.
ثامناً.. يلتسن ضد جورباتشوف.. العميل ضدّ العميل. يقول الماريشال يازوف: كان عمدة موسكو القريب من يلتسن عميلاً أمريكياً.. كان يعطى السفير الأمريكى معلومات كل خمس أو ست ساعات. وكنّا فى الجيش نعرف ذلك. ويلتسن كان يعمل ضد جورباتشوف.. يريد أن يكون رئيساً بأىّ ثمن.. لقد منع قطارات الغذاء من دخول موسكو.. حتى يجوع الناس ويخرجوا ضدّ جورباتشوف وضدّ الدولة. لقد قال لى يلتسن: «هذا الأصلع سوف أقطِّعه إرباً إرباً». وأدركت بذلك حجم الصراع بينهما وحجم المأساة التى يعيشها الاتحاد السوفيتى.
كانت هذه جوانب من شهادة الماريشال ديمترى يازوف.. آخر وزير دفاع فى الاتحاد السوفيتى.. ولقد كان يازوف ضابطاً فى الحرب العالمية الثانية، وحضر حفل انتصار السوفيت على النازية، كما أنه كان قائد الكتيبة السوفيتية فى أزمة كوبا أوائل الستينات، التى كادت تشعل حرباً عالمية ثالثة.. وفى عام 1987 أصبح وزيراً للدفاع.
يا له من فصل مثير فى تاريخ الصراع الدولى.. كان الاتحاد السوفيتى يحتاج إلى عشرات القنابل النووية لإسقاطه.. لكن عميليْن فقط تكفلا بذلك. جرى الحديث عن الاتحاد السوفيتى الجديد لكن الواقع شهد تدمير كل شىء. لقد نجحت واشنطن نجاحاً مذهلاً.. لم تطلق رصاصة واحدة.. ولَم تدخل فى أى معارك ساخنة.. نجحت بالسياسة فى ما كان مستحيلاً بالقتال.. تفوق بلا عناء ونصر بلا حرب.