لقد حكمتنا مقولة ابن خلدون طويلاً التى كان يقول فيها: إن الشعوب المهزومة مولعة بتقليد الدول المنتصرة، والحق أن أوروبا التى احتلت بلادنا وتقاسمت بمقتضى معادلة قانون سايكس بيكو النفوذ فى بلادنا فوقعت شعوبنا بين الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين مرة باسم الاستعمار ومرات باسم الانتداب، وفى كل الأحوال ظل الإعجاب بالمستعمر يملأ قلوب الجميع.
فى تصورى أن هذه المعادلة آن لها أن تتغير فأوروبا لم يعد لديها ما تقدمه للعالم وأكاد أقول العكس تماماً إن الدول الأوروبية تفكر جدياً فى إعادة زمن الاستعمار الجديد والسطو على مقدراتنا وخيرات بلادنا مجاناً وثروات أرضنا، لأن الأعداد فيها زادت ودول الجنوب لم يعد فيها من متنفس مثل دول الشمال، واختلط الحابل بالنابل، فحقوق الإنسان التى تغنّت بها دول الشمال لم يعد لها نفس السطوة والدليل على ذلك العبارة المنسوبة لرئيس حكومة بريطانيا يوماً والتى كان يقول فيها: إذا تعرضت بلادنا للخطر فلا تسلنى عن حقوق الإنسان.
أريد أن أقول ما سبق أن قاله خالد زيادة، سفير لبنان فى القاهرة يوماً من أن أوروبا لم يعد لديها ما تُغرى به العرب، فقد نضب المعين ولم تعد قادرة على اختراع الجديد كما كانت.
والحق أن هذا الرجل الذى وضع كتاباً بهذا العنوان كان يذهب إلى أن دول الشمال لم يعد فيها ما يُغرى بالذهاب إليها والحياة فيها، ولعله الوحيد بين الكتاب المعاصرين الذى قال بهذه القناعة التى يشعر بها القليلون.
لقد مرت هذه الأفكار فى ذهنى بينما تأكل النيران التى أضرمها ذوو السترات الصفراء المناطق الأثرية فى شارع الشانزلزيه بباريس وقوس النصر وتماثيل الجندى المجهول، وتساءلت: كيف يُشعل المتظاهرون الفرنسيون النيران فى واحد من أهم شوارع العالم بل كيف يحطمون زجاج بيوت الأزياء العالمية ويسطون على أموال بعض البنوك الموجودة فى هذا الشارع العريق؟
يبدو لى أن المواطن الفرنسى الذى يشعر بالفقر والعوز قد تغير عن المواطن الفرنسى قبل أربعين عاماً، الذى كان يخاف على بلده ويتظاهر سلمياً كما ينص على ذلك القانون، لا أريد قول إن هناك دولاً خارجية قد ساعدت فى إضرام هذه النيران، وأن الرئيس الفرنسى ماكرون يدفع ثمناً لتصريح أطلقه حول إنشاء جيش أوروبا الموحد.
ما أريد أن أقوله إن المواطن الفرنسى بدأ يشعر بالفقر، فانخفضت القوة الشرائية وتحولت أعياد رأس السنة إلى كابوس ولم يعد يختلف عن مواطن الجنوب الذى كان ضحية له فى زمن الاستعمار والانتداب.
مرة أخرى تذكرتُ عندما كنتُ طالباً فى باريس أن تجمهر مجموعة من الطلاب الأفارقة الذين كانوا يدرسون معنا عندما شاهدوا مدرجاً شهيراً فى جامعة السوربون مصنوعاً من الخشب الخالص، وهتفوا: إن هذا الخشب استولى عليه الفرنسيون قديماً من القارة السمراء وقت أن كانوا يستعمرون المدن والمزارع والصحراء.
الحق إن أوروبا تعيش مرحلة من القلق والتوترات، ففى باريس التى أحرقها ذوو السترات الصفراء هناك مظاهرات لذوى السترات الزرقاء بسبب تدنى الرواتب وارتفاع الأسعار، وإذا تركنا باريس وانطلقنا إلى دولة أوروبية حدودية مع فرنسا هى بلجيكا وجدنا ذوى السترات الصفراء يجوبون الشوارع ويرفعون اللافتات.
ولا ننسى أن بريطانيا العظمى تعيش أجواء حرب أهلية بسبب «بريكست» فحزب المحافظين فى حالة تنمّر لحزب العمال والشعب البريطانى يرقب الأحداث ويده على قلبه بسبب القلاقل والتوترات.
أما ألمانيا فتعانى من مظاهرات عمال السكك الحديدية الذين يجأرون بالشكوى من تدنى الرواتب ولا يختلف الأمر كثيراً عن دولة المجر التى تعيش على وقع المظاهرات التى تحرق الأخضر واليابس.
أريد أن أقول إن مستقبل القارة العجوز لا يبشر بخير والسيئ قادم لا محالة،
فأوروبا تفكر جدياً فى العودة إلى زمن الاستعمار، فهل نحن فى دول الجنوب نعرف ذلك واحتطنا للأمر؟ أم أن شيئاً من ذلك لم يمر بخيالنا، لقد فقدت أوروبا ما لديها ولم تعد قادرة على إغرائنا، فالاستعمار الأوروبى الجديد على الأبواب!