حوار من تراث التليفزيون المصرى بثته قناة «ماسبيرو زمان»، أجرته الإعلامية الراحلة سامية الأتربى مع شيخ الصحفيين الراحل حافظ محمود. لقب شيخ الصحفيين لم يكتسبه حافظ محمود من فراغ، فقد عاش تجربة صحفية عريضة، وبدأ مسيرته المهنية بلقب أصغر رئيس تحرير فى مصر، وذلك بعد إصدار جريدة «الصرخة»، وهى إحدى الصحف الناطقة بلسان جماعة مصر الفتاة، وترأس تحرير العديد من الصحف فى مصر ما بعد الثورة، على رأسها جريدة «القاهرة» المسائية، ثم جريدة «الجمهورية». وهو واحد من المؤسسين الأوائل لنقابة الصحفيين، وكان نقيباً لأربع دورات متتالية.
الحوار أجرى على وجه التقريب خلال فترة الثمانينات من القرن الماضى. وأكثر ما لفت انتباهى فيه هو حديث حافظ محمود عن أن الصحافة المصرية تُصنّف -من حيث الفن الصحفى- فى المستوى الرابع على مستوى العالم. وقد أكد هذه المسألة أكثر من مرة. هذا المستوى من التصنيف كان يعكس عمق التجربة المهنية للصحافة المصرية، والمشوار الطويل الذى خاضه من عملوا بها منذ نشأتها على يد محمد على، وحتى بلغت هذه المكانة. كان الصحفى أو «الجورنالجى» فى ما مضى لا تُقبل شهادته أمام المحاكم، لأنه يمتهن عملاً يعتمد على الكذب، ويسجل سلامة موسى فى كتابه «الصحافة.. حرفة ورسالة» أن أصحاب البيوت كانوا يحجمون عن تأجير الشقق للصحفيين، لأن المعلوم للناس فى ذلك الوقت أن الصحفى لا يحصل على راتب منتظم، وأنه يقبض شهراً، ولا يقبض الذى يليه. طابور طويل من الصحفيين أسهم فى وضع أسس المهنة فى مصر، خصوصاً بعد ثورة 1919، حتى استطاعت أن تتبوأ موقعاً متقدماً على مستوى العالم.
جيل الصحفيين الذى يمثله حافظ محمود كان مؤمناً بالمهنة والدور الذى تقوم به، وينفق عليها من جيبه فى أحيان. ولم يفرق معه كثيراً حجم أو نوع القيود التى تفرضها السلطة عليه. فقبل ثورة 1952، نعم بمساحات حرية فى أوقات، وبأشكال مختلفة من التضييق فى أخرى، لكن الصحافة ظلت مؤثرة، لأن الصحفيين كانوا يجيدون قواعد المهنة ويعرفون كيف يوظفونها فى التأثير على الجمهور مهما كانت الأغلال المفروضة عليهم. ولا خلاف على أن مساحات التضييق زادت بعد ثورة يوليو 1952، لكن الجيل المؤمن بالمهنة والماهر فى الصناعة كان قادراً على العمل. ولم يحل الالتزام بتوجّهات السلطة السياسية، بغض النظر عن معدلات الاقتناع بها، دون التأثير فى المتلقى عبر آليات المهارة المهنية. تأثير الصحافة فى الستينات والسبعينات كان واضحاً على الجمهور، لأن الصحفيين كانوا يتمتعون بقدرات تساعدهم على ذلك.
الفارق الجوهرى بين جيل حافظ محمود ومصطفى أمين وأحمد بهاء الدين وفتحى غانم وصلاح حافظ وهيكل وموسى صبرى وأنيس منصور وغيرهم، وبين الجيل الحالى يتعلق فى الأساس بالقدرات. الجيل السابق تمتع بمهارات أعلى وشغف حقيقى بالصناعة، فى حين أن قلة من أبناء الأجيال التالية توافرت فيها هذه المقومات. وقد أخذ منحنى القدرات المهنية فى الهبوط حتى وصلنا إلى الحال التى نحن عليها، فأصبحنا أمام صحفيين معدومى العافية على المستوى المهنى، لكنهم يتمتّعون بقدرات أخرى. فارق كبير بين الصحفى الملتزم وطنياً ومهنياً -كما كان حال جيل حافظ محمود- والصحفى الملتزم بولاءات طرفية ومصالحية.