د. محمد المهدى: الأسر «جُزر منعزلة».. والعائلة فقدت امتدادها.. والأجيال الجديدة انقطعت عن ماضيها
الدكتور محمد المهدى، أستاذ الطب النفسى
قال الدكتور محمد المهدى، أستاذ الطب النفسى، إن العائلة الكبرى تحولت من طور «الأسرة الممتدة»، التى تضم جميع الأسر الصغرى المتكونة تحت سقف واحد، إلى ما يسمى بـ«الأسرة النووية»، نسبة إلى النواة، وهى التى تعيش فيها الأسر المتفرعة من العائلة بشكل انعزالى عن العائلة الأم، ما يؤدى فى النهاية إلى تفكك العلاقات بين الأسرة الواحدة، وأوضح «المهدى» فى حواره لـ«الوطن»، أن ابتعاد الأجداد، الذين يمثلون جانب الحكمة والخبرات، عن أبناء أبنائهم يُشعرهم بالحرمان ويعرضهم لآثار الشيخوخة بأمراضها بشكل مبكر، فى ظل حياة مادية تسلب المسئول عن الأسرة فكرة التواصل بين أجيال العائلة، وتنقطع الأجيال الجديدة عن ماضيها.
كيف تغيرت فكرة العائلة فى المجتمع المصرى؟
- قديماً كان الجميع يعيش فى منزل واحد، وكانت تُسمى العائلة وقتها بـ«الأسرة الممتدة»، حيث كان للجدين دور كبير فى تربية الأحفاد، وهذا يضيف إلى خبرات الأبوين حديثى العهد، ويمثلان جانب اللين فى مواجهة قسوة وعنف الأبوين الصغيرين أو قلة خبرتهما فى التربية، وفى الأسرة الممتدة عندما كان يغيب الأب أو تمرض الأم كان بقية أعضاء الأسرة الممتدة يملأون فراغ الشخص المفقود ما يعطى اتزاناً للأسرة وسلامة نفسية، لكن العصر الحديث حول الأسرة الممتدة إلى مجموعة أسرة «نووية»، منفردة انعزالية، فيصبح لقاء الجميع تحت سقف واحد حدثاً أسبوعياً أو شهرياً أو ربما سنوياً ويغيب دور الجد فى تربية الجيل الجديد فتنقطع الخبرات والصلات، ما يوقع الأسر الوليدة المنعزلة فى أخطاء تربوية ولا يجدون عقلاً ذا خبرة يُصححها.
أستاذ الطب النفسى: قلة الزيارات العائلية تحرم الجيل الجديد من الانتماء
وما الفوائد التى تعود على جيل الأحفاد من فكرة الأسرة الممتدة؟
- أول ما يُمثله الجدان للأحفاد هو الانتماء، لأن الجدين لهما جذور اجتماعية ونفسية ولديهما احتواء أعمق من الوالدين، ما يجعلهما الملجأ والحماية النفسية المبكرة لجيل الأحفاد، وعلى العكس يُمثل الأحفاد للجدين إحساس تجدد الحياة فى سنهما المتقدمة، ما يشعرهما بالطمأنينة والأمل.
على المستوى النفسى، كيف يؤثر ابتعاد الأبناء والأحفاد عن الجدين نفسياً؟
- يخلق حالة من الحرمان لديهما، فيعيشان حياة جافة وعقيمة، ما يعجل بإصابتهما بأمراض وآثار الشيخوخة، لأنهما قد تم عزلهما عن امتدادهما، وهذا يعطى لهما انطباعاً بأن دورهما فى الحياة قد انتهى، وللأسف فإن الحياة العصرية جعلت الجميع مشغولاً للغاية بتحقيق الذات علمياً ومهنياً واجتماعياً ومادياً، ولم يعد لديهم فائض وقت يُعطونه للجدين، وهذا يصيب جيل الأجداد بالمرارة وعدم الجدوى من الحياة.
وما آثار انقطاع الزيارات على الأسر؟
- يفقدها تماسكها، فالجيل الجديد لا يعترف بالقرابات الممتدة، وينفر تماماً من زيارة أقاربه، فتتولد لديه حالة الفردانية والعزلة، التى سيطرت على شباب الجيل الحالى ككل، الذى يُفضل الخروج برفقة أصدقائه فى الأعياد أو المناسبات عن زيارة ذوى القربى، فينهار تماسك العائلة ومن ثم تتأثر العلاقات التى تجمع أفراد المجتمع، وبالتالى يفقد الفرد حصنه الآمن إذا ما تعرض لأى خطر، فدائماً يعيش الفرد المنعزل حياة خوف وقلق مستمر، لأن الغطاء العائلى لم يعد موجوداً، وإذا نظرنا إلى أصل كلمة «الأسرة» فإنها أتت من كلمة «الأسْر»، أى إن هناك فرداً مأسوراً لآخر، وهو الأساس فى الارتباط بين الزوجين وعلاقتهما بأبنائهما، وبالتالى إذا حدث تصدع أو انشقاق داخل الأسرة يُفقد مفهومها، وفى هذا العصر ضعف ترابط الأفراد بشكل يدعو إلى القلق، فساءت علاقات الزوجين وأصبحت الأسرة عرضة بشكل أكبر للمشكلات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، فصار كل فرد داخل الأسرة يعيش فى غرفة منعزلة.
ابتعاد الأبناء والأحفاد يُشعر الجدّين بعدم جدوى الحياة.. والجيل الحالى لا يعترف بالقرابات الممتدة فأصابته عزلة.. والأب منزوع من الأسرة بفعل الضغوط الاقتصادية.. وغيابه أفقدها قيمة الشراكة.. والطلاق يخلق صراعاً للاستحواذ على الأبناء وربما يسبب لهم خللاً فى الهوية الجنسية لأن بناءهم النفسى يحتاج إلى أب وأم معاً
هل للعوامل الاقتصادية دور فى حالة التفكك التى تعيشها أسر هذه الأيام؟
- دائماً ما كنت الأم المصرية وتد الأسرة ومحور ارتكازها، لأنها موجودة أغلب الفترات داخل المنزل، والجميع يتعلق بها كما أنها تعرف كافة تفاصيل حياة زوجها وأبنائها، لكن الزوج أو الأب يمثل المشكلة الأكبر فى الارتباط الأسرى، لأن تأثير الظروف الاقتصادية يدعوه دائماً ليكون منزوعاً من أسرته ليلبى الاحتياجات المادية، وبالتالى هذا يؤدى إلى خلل وجود وتصبح الأسرة كأنها مجموعة أفراد يأكلون ويشربون بمعزل عن فكرة الترابط والاشتراك فى حلم واحد ووجود واحد.
تنتشر حالات الانفصال والطلاق داخل المجتمع، فما تأثيرها على انسجام الأسرة؟
- قبل قرار الانفصال والطلاق تظهر حالة استقطاب بين أفراد الأسرة، وبعد الانفصال يزيد صراع الأبوين على الاستحواذ على الأبناء، وبالتالى يؤثر الطلاق على الأبناء بشكل سلبى، فهم يريدون أن يروا الأم والأب معاً، وكلمة «معاً» لها أثر مهم للغاية فى البناء النفسى للأبناء، ومع وقوع الطلاق يحدث عدم التوازن نظراً لغياب أحد الطرفين، فالولد يحتاج إلى حضن أمه وحنانها لكنه فى نفس الوقت يحتاج إلى الأب فى مراحل ومواقف كثيرة من حياته، وهو ما لا يجده فى حضن الأم، وقد ينتج لديه مشاكل فى الهوية الجنسية بسبب ذلك، كما أن البنت مثلما تحتاج إلى أمها، فهى بكل تأكيد فى حاجة إلى والدها لكى تعرف كيف يتعامل الكائن الذكورى، فغياب أى من الطرفين يُحدث خللاً فى التركيبة النفسية والتربوية للأبناء.
وكيف ينعكس التفكك الأسرى على الأبناء نفسياً؟
- أولاً يُضعف الانتماء للأسرة، ويعزز فكرة المصلحة الشخصية، فيضطرب التكوين الأخلاقى للولد أو البنت، ويفسد بناء الضمير لدى الفرد، وهو ما نلاحظه فى اضمحلال الضمير العام خلال الفترة الحالية، كما أن تفكك الأسرة يفقد الأبناء مشاعر إنسانية لن يستطيعوا تعويضها فى أى مكان آخر خارج إطار الأسرة، فضلاً عن حدوث «افتقاد محور الارتكاز»، وهى الانقطاع عن المرجعية، التى يعود إليها فى أى موقف أو أزمة يُواجهها، ويشعر وقتها الابن بعدم الأمان ويصبح لديه نزعة استحواذ كبيرة، كما أنه يفقد الثقة فى الآخرين، علاوة على أن التفكك الأسرى يؤثر بشكل سلبى على مستوى التحصيل الدراسى للأبناء، ولا يستطيعون النجاح ولا تجاوز العقبات التى تواجههم أثناء الدراسة، فالتحصيل الدراسى أشبه بالترمومتر لحالة الاستقرار داخل الأسرة.
وما خطوات الحفاظ على الأسر من داء التفكك والانعزالية؟
- بداية ليس لدينا ما يكفى من الثقافة التربوية، وقد نستمع إلى نصائح مختلفة لكننا نفتقد فى مجتمعنا المنهج التربوى، فبعض الآباء يُدللون أبناءهم بشكل كبير، وآخرون يلجأون إلى الحزم والشدة المُبالغ فيها، وفى الحالتين يفسد الأبناء، أما عما يجب فعله من الوالدين للمحافظة على الأسرة هو تجنب المُشادات أمام الأبناء حين يفقدا السيطرة على أنفسهما، وفى نفس الوقت لا يجب الظهور أمام الأبناء بصورة مثالية دون أى مشاكل أو اختلاف، لأنه يجب أن يرى الأبناء كيف يختلف الوالدان فى الرأى وكيف يتصالحان ويعتذران مرة أخرى، كأنها بروفة للحياة الواقعية تمكنهم من اكتساب الخبرات الحياتية، كما يجب على الزوجين تجاه الأبناء ألا يركزا على كافة أخطائهم والمعاقبة فقط على ما يستحق كى تظل العلاقات بينهم جيدة، لأن الأب أو الأم الناقدة بشكل دائم وممارسة السلطة الأبوية الخانقة، يجعل الطفل أو الشاب ينفر من الأبوين لأنه يشعر حينها بأنه فرد غير مرغوب فيه.
كيف ترى دور الدراما التليفزيونية والسينما فى تعزيز سلوك الترابط العائلى؟
- الدراما كثيراً ما رسخت فكرة المشاكل والأزمات داخل العائلة الواحدة، وسلطت الضوء على الآثار السلبية لتدخل الأخوال والأعمام، كما أن ترديد أمثال كـ«الأقارب عقارب» و«الحما عمى» فى حوارات المسلسلات والأفلام يدعو العقل الباطن إلى كراهية الحموات، بعكس الدراما التى تعرض مثلاً فى تركيا والتى تُعزز الجو العائلى وإيجابياته، أما على مستوى الأسرة فللأسف الشديد المعالجة الدرامية بشكل عام لا تصب فى صالح الترابط الأسرى سواء بقصد أو غير قصد، وعلى سبيل المثال فالسخرية الشديدة للغاية من الزواج، وتصدر قصص الفشل فى الزواج والطلاق، ومع تراكم أعمال درامية عنها بحجة أنها أشياء موجودة فى مجتمعنا، أدت إلى صورة ذهنية سيئة لدى المتلقى عن الزواج، ما يشجع الشباب دائماً على فكرة الانعزال والخوف من تكوين أسرة.