«فش الغل» فى من حوله، يتصاعد الصراع من الطرفين دون سابق إنذار، وقد يتطور الأمر إلى اشتباك جسدى «على خفيف»، مع محاولات طفيفة من المارة لفصل المتعاركين (وإن لوحظ أن أعداد المتفرجين باتت تفوق أعداد الفاصلين بين القوات). وكما اشتعلت الخناقة فجأة، تنتهى فجأة. قلة قليلة جداً من خناقات الشارع تنتهى فى أقسام الشرطة، أو حتى تتدخل فيها قوات الشرطة، وربما يكون لذلك سبب ما، أو منطق معين يستعصى على أمثالى فهمه. لكنه أيضاً قد يعنى أن خناقات الشارع لها سيناريو معروف مسبقاً، فالبناء الدرامى محكم، والاحتدام التراجيدى متوقع، والنهاية أيضاً شبه محتومة. وقبل سنوات طويلة، كان يقال لنا إن شعوب المتوسط - شماله وجنوبه - شعوب حامية بالفطرة، وزاعقة بطبيعتها، ومشوحة بأياديها. وقد يكون فى ذلك بعض من الحقيقة، إلا أن تطور خناقات الشارع المصرى له طبيعة خاصة، لا سيما فى السنوات القليلة الماضية. «عبده موتة» و«إبراهيم الأبيض» و«نمبر وان» وغيرهم دخلوا بكل قوتهم، وبغضّ النظر عمن كان السبب فى تدنى الأخلاقيات وتدهور السلوكيات أولاً، هل هى النماذج الدرامية «الناجحة» للبلطجية الجدد، أم أن هذه النماذج وُجدت لأنها تمثل الواقع، تبقى النتيجة واحدة: خناقات شوارعنا تحتاج متابعة وتحليلاً، ولا أقول علاجاً أو مواجهة بعد. ورغم أننى من أعتى نصيرات حقوق المرأة وأشد مؤازرات المساواة والواجبات والحقوق المتساوية بين الجنسين، فإننى لاحظت تطوراً فى دخول المرأة على خط خناقات الشارع. فبعد ما كان المجال النسوى فى هذا الشأن قاصراً على سيدات محترفات فى مجال البلطجة والسوقية، انفتحت أبواب خناقات الشارع على مصاريعها أمام نون النسوة. ولاحظت تطورين مهمين: الأول هو انقشاع، بل وتبخر، منظومة «مايصحش.. دى مهما كان واحدة ست»، وصعود نجم «فرصة، دى واحدة ست، يللا نخلص عليها». والثانى هو انهيار حاجز الخوف والحرج أمام الكثيرات، مع شعورهن بتربص العالم من حولهن بهن، وهو ما يبدو واضحاً فى الخناقات ذات الأطراف النسائية المنتمية لطبقات اجتماعية واقتصادية متعددة. ومع تعدد الطبقات، ووصول ثقافة خناقات الشوارع إلى جميع الفئات. خناقات الشوارع ظاهرة تستحق الدراسة. ومنذ الطفولة وهى تشغل البال وتحرك الفكر وتؤجج ميول التعليل والتحليل، وباعتبارى ابنة بارة لحى شبرا الجميل، فقد كنت أندفع نحو الشرفة ما إن تتفاقم أصوات المواطنين المتعاركين الماسكين فى ملابس بعضهم البعض، وكم كانت ممتعة متابعة مجريات الخناقة من الشرفة، حيث بقية الجيران كل فى شرفته يشرف على سير العملية العراكية من أعلى. وتتجمع الأسرة إلى جوار بعضها البعض وكل يدلى بدلوه، الأب يرجح أن يكون هذا هو من بادر بالتعدى لأن سمات الشر تظهر على وجهه، والأم تقول إن الحكاية لا تستحق لأن كليهما «شكله ابن ناس»، والأبناء ينمون ملكاتهم المعرفية وإدراكاتهم الحياتية، مشيرين إلى العناصر الأخرى المحيطة بالخناقة، حيث متجمهرون يسخنون الأجواء، أو محيطون يشعلون المشاعر الغاضبة. بالطبع كان البعض من هذه الخناقات يتطور تطوراً غير محمود، فيصل الأمر إلى خلع القمصان استعداداً للنزال، أو الاستعانة بحزام البنطلون، إما للتهويش أو لإلحاق أكبر قدر ممكن من إسالة الدماء. وظلت الخناقات تستهوينى إلى أن بدأت فى ترهيبى.
بالطبع تطور المحتوى اللفظى للخناقات أمر جدير بالملاحظة، وكذلك دخول أدوات مساعدة فى الخناقة من «كوريك» وطوب وما تيسر من أدوات حادة أيضاً أمور تستحق التأريخ. لكن أسباب الخناقات أيضاً أمر يستوجب الدراسة، فقد أصبح أتفه الأسباب سبباً لخناقة مدوية، لا نقول ذلك تبريراً للمعارك التى تندلع لأسباب قوية، ولكن أن يتعارك اثنان بسبب نظرة لم تعجب أحدهما، أو لمزة لم يستسغها الآخر، يعنى إما أن كثيرين لا يفصل بينهم وبين الانفجار سوى شعرة، أو أن كثيرين خرجوا إلى الدنيا فى غفلة من أى تربية أو تعليم أو تنشئة، أو أن كثيرين يعتبرون خناقات الشوارع أمراً عادياً وتفصيلة حياتية طبيعية لا تختلف عن تناول الإفطار أو مشاهدة التليفزيون أو متابعة الدورى. لست متأكدة من وجود جهة ما فى الدولة يمكنها القيام بهذا الرصد وهذه المتابعة. الأمر يحتاج دراسة اجتماعية ونظرة نفسية وعصبية على المشهد، ولعل النتائج تساهم فى رسم خارطة اجتماعية ونفسية للمصريين تساعد فى علاج ما يمكن علاجه، وتقويم ما هو خاضع للتقويم، والاستفادة من أية جوانب إيجابية تحيط بأجواء الخناقات، مثل محاولات الفصل بين المتعاركين، وتهدئة الأجواء مثلاً. المؤسف أن خناقات الشوارع فقدت جانباً من إثارتها واكتسبت رهبة وترهيباً.