كان ذلك فى منتصف ثمانينات القرن الماضى فى قلب جامعة السوربون، وأمام أحد مدرجات الجامعة، ضربت مجموعة من الطلبة الأفارقة أقدامها فى الأرض، وصرخت بصوت واحد وهى تشير إلى خشب المدرج: إنها أخشابنا.. استولى عليها الفرنسيون وأقاموا بها هذا المدرج الخشبى! واتّجه آخر إلى السور الحديدى وحاول خلعه هاتفاً: إنه حديدنا سيطر عليه الغزاة الفرنسيون مع خيرات باطن الأرض من منجنيز ومعادن أولية، وجاءوا بها لبناء نهضتهم ورفاهية شعبهم على حساب بؤس شعوبنا فى أفريقيا! تجمهرنا وتحلقنا حول الأفارقة الوطنيين، وأخذنا نتأمل الغضب الذى كان بادياً على وجوههم، ونفكر ملياً فى ما قالوه من سطوة البيض على السود فى صحراء أفريقيا الشاسعة. جاء الأستاذ المحاضر فانخرطنا فى صفوف هادئة وأخذنا نستمع إليه وهو يتحدث عن «ابن خلدون»، مؤكداً أن الفرنسيين القدامى هم الذين اكتشفوه!
نكأ الطلبة الأفارقة جراحنا فأطلت فكرة العبودية بوجهها القبيح وأخذنا نجتر ممارستها البغيضة وتصنيفهم لها: العبودية بالقرصنة، والعبودية بالتحالفات، والعبودية بالمشاركة، إلا أننا لم ننس أن العبودية هى تجارة أوروبية تعود فى بداياتها إلى القرن الخامس عشر عندما حدث الاتصال بالغرب، فى البداية جاءوها مغامرين ومكتشفين ومبشرين، ثم تدفّقوا تجاراً للرقيق سرقوا واقتنصوا واقتادوا ملايين البشر فى أفريقيا عبر الأطلنطى، وقذفوا بهم إلى دول الشمال.
والحقُ أن الزعيم الغانى الراحل كوانى نكروما قد قدر عدد الشباب الذين فقدتهم أفريقيا خلال أربعة قرون بمائة مليون شاب وشابة، وهو ما يعنى أن القارة السمراء قد أُفرغت فى هذه الفترة من أبنائها!
ورغم أن الغرب هو الذى ابتدع تجارة الرقيق عبر الأطلنطى، وانتزع الأفارقة، وشحنهم خارج قارتهم السمراء بلا عودة، فإنه للمفارقة يحاول أن يتنصل من أحط جريمة عرفتها البشرية، فالأفارقة قد ساعدوا الغربيين، لكن لولا وجود المشترين لما وجدنا البائع.
لقد اغتصب الأوروبيون الأرض، وأزاحوا الأهالى، وأحياناً كانوا يسممون منابع المياه، ومن لا يتعاون معهم فى استجلاب العبيد كانوا يلجأون إلى إبادة الأهالى والامتلاك الكامل لأراضيهم.
باختصار بعد أن نضب المعين فى أوروبا وأصبحت على شفا الإفلاس لم يعد أمامهم سوى القارة السمراء، ليس باسم الاستعمار القديم أو لعنة الانتداب، لكن من خلال شبكات الاستثمار، أو ما يسمى بدوائر الاستعمار الجديد، فالقارة السمراء لا تزال أرضاً بكراً، ثم هى صومعة غلال العالم، سيما أنها تعثّرت بعد استقلالها والرجل الأبيض لم يكن بريئاً بالطبع!! والحق أن أساليب دول الشمال فى التعامل مع شعوب أفريقيا قد ذكرتنى بالأفلام المصرية القديمة التى يتعامل فيها الباشا بطل الفيلم مع العزبة التابعة له خارج القاهرة فهو يصنع فيها ما يشاء، سكاناً وأرضاً، فلم يطل تفكير الرجل الأبيض فى النفايات النووية، فاهتدى إلى دفنها فى أرض القارة السمراء، واشترى المساحات الشاسعة من صحرائها بثمن بخس، ومن أجل حصول الأفارقة على البنادق والأسلحة النارية، ليدافعوا بها عن أنفسهم فى حروبهم الداخلية.
ولقد ثبت أن المشاركين فى هذه الجريمة هى الدول المصدرة لتلك النفايات والدول الأفريقية المستقبلة لتلك النفايات والعصابات الدولية، ورغم معرفة دول الشمال للأضرار البيئية الناجمة عن عمليات الدفن، فإن جفناً واحداً لها لم يتحرك. ويمكن القول إن دفن هذه النفايات فى باطن الأرض يلوث المياه الجوفية وأيضاً مجارى الأنهار، كما أن إلقاءها فى مياه البحار أو المحيطات قبالة السواحل الإقليمية للدول الأفريقية يلوث الحياة المائية ويدمر البيئة، لأن انتقال السموم للحيوانات البحرية أو النباتات لا بد أن ينتقل بالتالى إلى الإنسان، فدورة الحياة متصلة. والثابت أن دول العالم الثالث، والدول الأفريقية على وجه الخصوص، تعد «مزبلة» للعالم فى التخلص من النفايات النووية والضارة، وهناك نحو 44 دولة تفتح أراضيها كمقابر لتلك النفايات السامة!
أوروبا تستعد بعد أن سال لعابها مجدداً لاستعمار جديد للقارة السمراء تارة باسم الاستثمار، وتارة باسم الثقافة والبحث بالجذور عبر الزنوجية، ويساعد فى ذلك غياب القوانين الرادعة وولاء الحكام الأفارقة للثقافة الغربية.
بمعنى آخر الاستعمار الجديد لأفريقيا على الأبواب.