لطالما كان الإعلام موضوعاً سياسياً، إذ لا يمكن فصل الإطار التنظيمى الذى يعمل خلاله عن الانشغالات والتحديات والهموم السياسية التى تعترى مجتمعه عموماً، ولا يمكن تقدير مساحة الحرية التى يعمل خلالها إلا من خلال النظر إلى طبيعة الضغوط والقيود المفروضة فى المجتمع إجمالاً، والتى تستند فى عمومها إلى توجهات السلطة إزاء الإعلام وحريته من جانب، وإلى التحديات التى تواجهها الدولة من جانب آخر. وفى هذا الصدد، تبرز تحديات كبيرة تواجهها الدولة المصرية اعتباراً من «30 يونيو 2013»، وهى تحديات ترقى إلى مرتبة التهديد الهجين، الذى يتضمن مواجهات مسلحة بين القوات النظامية وقوى إرهابية من جهة، واستهدافات سياسية ودبلوماسية من قوى معادية تتمثل فى دول وتنظيمات عابرة القومية من جهة ثانية، وهجوم إعلامى يستهدف الروح المعنوية وحالة الاستقرار العامة من جهة ثالثة.
فى ظل هذه التهديدات الهجين، قد تسعى الدولة إلى بيئة إعلامية مدافعة ومواتية فى آن واحد، وهو الأمر الذى يمكن أن يقودها إلى اتخاذ إجراءات باتجاه تقييد المجال الإعلامى أو غلقه، وقد يميل المشرعون، اتساقاً مع ذلك، إلى إصدار قوانين تلائم طبيعة المرحلة، وهو أمر يمكن أن يلقى بظلال على استقلالية الإعلام وحريته ومهنيته المفترضة، ويحرم الدولة والسلطات من الاستفادة من مزايا المجال الإعلامى الوطنى الطبيعى الضرورى، ويقوض مقومات صناعة الإعلام. ولأن بعض المشرعين ينظرون إلى زاوية واحدة من زوايا المشهد، ويعتقدون أن العالم توقف عند حقبة الستينات من القرن الفائت، ويبالغون فى إظهار الولاء، ويخفقون فى قراءة أبجديات المشهد الاتصالى العالمى الراهن، ويمعنون فى تجاهل أولويات الجمهور وعدم اعتباره، فإنهم يتورطون فى ارتكاب مخالفات تشريعية وإعلامية وسياسية صارخة.
شىء من هذا القبيل يحدث فى المجال الإعلامى المصرى، الذى تلقى دفعة إيجابية قوية مع صدور التعديلات الدستورية فى يناير 2014، وهى التعديلات التى أرست إطاراً دستورياً جيداً وإيجابياً فيما يتعلق بتنظيم المشهد الإعلامى، لكن هذه الدفعة الإيجابية ما لبثت أن تبعتها انتكاسات متتالية.
فقد صدر القانون 92 لسنة 2016، تحت اسم «قانون التنظيم المؤسسى للصحافة والإعلام»، وتم إنشاء ثلاث هيئات إعلامية بموجب هذا القانون، هى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والهيئة الوطنية للصحافة، والهيئة الوطنية للإعلام، لكن سرعان ما أدرك الكثيرون أن صدور هذا القانون لم يكن عملاً صحيحاً، وأن تشكيلة الهيئات لم تكن تشكيلة إيجابية. وبناءً على ذلك، سعت الدولة إلى محاولة تصحيح الأمور، فألغت قانون التنظيم المؤسسى، وأنهت عمل الهيئات الثلاث بتشكيلاتها الراهنة، من خلال إصدار قانون جديد هو القانون 180 لسنة 2018، الذى أجرى تعديلات جوهرية على سلفه، وبدا أكثر منطقية، وإن كان ينطوى على الكثير من العيوب والمشكلات بطبيعة الحال.
بات لدينا إذن قانون جديد، وتشكيلات جديدة مفترضة للهيئات الإعلامية الثلاث، لكن الأمور بقيت على حالها لأكثر من أربعة شهور منذ صدق رئيس الجمهورية عليه، وفى غضون ذلك سعى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام إلى إصدار «لائحة جزاءات إعلامية»، فى فترة «تسييره للأعمال»، انتظاراً لإعلان التشكيل الجديد. من الطبيعى أن يصدر المجلس لائحة جزاءات، وهو الأمر الذى طالبنا به مراراً، إذ لا يستقيم أن يفرض المجلس عقوبات على وسائل الإعلام من دون «نص مكتوب» (لا عقوبة إلا بنص)، ومع ذلك فقد تباطأ المجلس كثيراً فى إصدار تلك اللائحة، وعندما بات «خارج الخدمة نظرياً» راح يسعى إلى إصدارها.
على مدى الأيام الفائتة شهد المجال الإعلامى لغطاً كبيراً بخصوص مشروع لائحة جزاءات المجلس، التى تم تسريب نسخة عنها بداية للصحفيين، قبل أن يتنصل المجلس منها ويقول إنها صادرة عن إحدى لجانه، ثم ظهر الحديث عن مشروع لائحة جديدة، انتقدته نقابة الإعلاميين، وهاجمه أعضاء بارزون فى نقابة الصحفيين، واعتبره عدد كبير من الصحفيين والرموز الفكرية والثقافية «عدواناً جديداً على الصحافة والإعلام».
والغريب والشاذ حقاً أن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام لم يعلن مشروع لائحته على المجال العام، ولم يرسله لبعض الجهات المعنية دستورياً بإبداء الرأى فيه، ولم ينشره فى الصحف لكى يخضع للنقاش الواجب.
على الموقع الإلكترونى للمجلس ثمة رابط يحمل عنوان «المعايير الإعلامية.. أكواد التغطية المتخصصة.. ولائحة الجزاءات»، وعبر هذا الرابط تظهر نسخة عن «مشروع لائحة الجزاءات»، وهو المشروع الذى يفيد بعض المطلعين بأنه جوهر وأساس اللائحة المنتظر إصدارها.
ولأن المجلس لم ينشر مشروع لائحته الجديدة، فسيمكن التعاطى مع ما ينشره على موقعه باعتباره مقترحاً للبناء عليه فى إعداد تلك اللائحة، وهنا يجدر التنبيه إلى أن هذا النص يعكس صورة قاتمة عما يمكن أن يلحق بالمجالين الإعلامى والسياسى فى مصر حال صدور لائحة تحمل السمات ذاتها.
ينطوى النص المشار إليه على مخالفة صارخة للمادة 71 من الدستور التى تحظر وقف أو إغلاق وسائل الإعلام المصرية، كما يظهر فى المادة 18 من مشروع لائحة الجزاءات المنشورة على موقع المجلس، والتى تجيز للمجلس النظر فى «سحب ترخيص» وسائل الإعلام. كما تساوى اللائحة المفترضة بين استخدام الأخبار مُجهلة المصادر وبين الشائعات (مادة 5)، بينما نحن نعرف أن استخدام المصادر المُجهلة استثناء يحصل عليه الصحفيون فى حالات محددة مشروعة. وتجعل اللائحة من عدم تحقيق معيار التوازن مخالفة إعلامية تستوجب تحقيقاً وغرامات مالية (مادة 4)، وتوقع غرامات مالية على من يناقش «حالات فردية باعتبارها ظاهرة» (مادة 11). وفى المادة 12 تقرر اللائحة المفترضة أنه يجوز وقف بث البرنامج أو الباب الصحفى مؤقتاً عند التشكيك فى الذمم المالية، لحين انتهاء تحقيقات يجريها المجلس فى هذا الصدد.
وفى المادة 13 يحظر نشر بيانات «التنظيمات الإرهابية»، ويحظر «إبداء آراء أو معلومات تؤدى إلى النيل من تماسك الشعب المصرى وروحه المعنوية» عند تغطية الحوادث الإرهابية (...).
إن قراءة مشروع لائحة الجزاءات المشار إليه، ومعاينة الطريقة التى يتم إعداد اللائحة بها، والتصريحات الرسمية المتضاربة بشأنها، كلها عوامل تشير إلى أن صناعة الإعلام فى بلاء عظيم، وأن تدنى الكفاءة أكثر تأثيراً فى مسارها من النزعات القمعية وميراث التسلط.