نشر نعيه فى «الأهرام والمصرى والمقطم»، وبكاه الأهل والأصدقاء وأقيم مأتمه الذى تحول إلى ملحمة وطنية فى قريته، قست الظروف على أهله ففجعهم بموته مع حرمانهم من جثته. كان فى السجون الإسرائيلية بعد أن سقطت طائرته الحربية بالقرب من «جنين» فكأنه يجتاز برزخاً بين الموت والحياة، الموت الذى سلم به أهله، وحياته كأسير فى إسرائيل لمدة عشرة أشهر. كان قائد الأسراب المصرى عبدالرحمن عنان قد أعد سربه المكون من خمس طائرات فى مطار العريش لضرب أحد المطارات الإسرائيلية يوم 22 مايو 1948 كانت طلعته هذه هى رقم 17. قاد عنان سربه لضرب المطار الإسرائيلى، ولكن الطائرات البريطانية تعقبت الطائرات المصرية، وكانت الأحدث والأقوى، حاول عنان أن يصرف الطائرات البريطانية عن سربه لتتعقبه هو ولكنها كانت كثيرة بحيث أسقطت الطائرات الخمس المصرية. لم يكتفوا بإيجاد إسرائيل بل وساهموا فى انتصارها فى حرب 1948ثم تولت أمريكا هذه المسئولية.
حاول عنان الذهاب إلى القرى الفلسطينية ولكنه وقع بالخطأ فى معسكر إسرائيلى يحرسه شخص يتحدث العربية، كان ينزف بقوة من قدمه ولكنه سار مسافة طويلة لم يشعر بتعب ولا ألم بعد أن أغلق الجرح بمنديل، فطاقات المعارك الإيجابية تغطى على الآلام والجراحات، إنها طاقات عجيبة.
استشاط غضباً أحد آسريه من الصهاينة حينما وجد المصحف فى جيبه، فأهان المصحف وبصق عليه، لم يشعر عنان بنفسه إلا وهو يسدد له لكمة قوية فى وجهه، حاول الصهيونى قتله بعد أن ألجمته المفاجأة، ولكن زملاءه منعوه وسحبوا سلاحه. كان عنان يريد الموت السريع فقد كان يراه أهون عليه من التعذيب والهوان ثم القتل فى النهاية، ظل يعامل أسوأ معاملة حتى جاء الصليب الأحمر مع جنود إسرائيليين وأخبروه «أنه أسير حرب» قبل ذلك كان يدوس أحدهم بحذائه على رأسه ويضغطه فى الأرض حتى يكاد يزهق روحه. كان الطعام والشراب وكل شىء سيئاً، والحجة دائماً «إننا فى طور تكوين الدولة وأنت أول أسير منذ أكثر من ألفى عام» تنازعه شعوران متناقضان أحدهما الاستهانة بالحياة وعدم رهبة الموت والآخر الرغبة فى النجاة والفرار من الهلاك. كل معسكرات ومؤسسات الجيش الإنجليزى منحها طواعية للصهاينة لتكون نواة للدولة الوليدة، بريطانيا أصل كل مشاكل العرب، ولحقت بها أمريكا منذ الخمسينات، لم يفعلا سوى الانحياز الكامل لإسرائيل.
كادت الوحدة القاتلة فى السجن الانفرادى تقتل عنان معنوياً، بعد فترة طويلة جاءته أول ملابس من الصليب الأحمر، قابل فى السجن جنوداً إسرائيليين من أصول مصرية بعضهم كان يعمل فى شيكوريل وبعضهم تطوع فى الجيش الإنجليزى، وهؤلاء المتطوعون ضباطاً وجنوداً كانوا النواة الأولى للجيش الإسرائيلى، وعلى رأسهم موشى ديان نفسه. أدرك بمراقبته للجنود والضباط الإسرائيليين أن الصهاينة الغربيين يتسلطون على الشرقيين وأنهم سيقودون دولة إسرائيل مستقبلاً، وصدق توقعه. علم أن زميلاً مصرياً يجاوره فى السجن، علم بعدها أنه الطيار جمال سيف النصر استطاع لقاءه بأعجوبة وجده كأنه شبح جائع. تدهورت صحة عنان من عدم الحركة وغياب الشمس وقلة ورداءة الطعام، طلب من طبيب السجن حقوقه كأسير حرب، نقلوه إلى معسكر «أجليل» كان قائده يهودياً تركياً، بعد أشهر طويلة جاء مندوب الصليب الأحمر، صور الأسرى المصريين وأرسل صورهم لمصر، فكانت بمثابة الأمل المتجدد فى نفوس أقربائهم وذويهم، سلم الطيارين عنان وجمال طردين من مصر، وللحديث بقية إن شاء الله.
ملحوظة: حرب 1948 لا يعلم عنها معظم المصريين شيئاً رغم ما تم فيها من بطولات عظيمة، ولعل كتاب «كنت أسيراً» يشرح جانباً إنسانياً واحداً من هذه الحرب، أما الجوانب العسكرية ففيها كتب رائعة.