مات أسامة فوزى.
مات صامتاً، قرفاناً مما وصل إليه حال السينما المصرية.
مات ولم يقدم لهذه السينما سوى أربعة أفلام، لكنها بألف مما يعدون.
مات الذى قال فيه توفيق صالح رحمه الله إنه أفضل أبناء جيله، وتلك شهادة من سينمائى مخضرم (سبعة أفلام فقط ولم يحتمل) ينتمى إلى القماشة نفسها: السينمائيون الأقل إنتاجاً، والأكثر تأثيراً، والأعمق حضوراً.
لم يكن أسامة متلهفاً ولا مرناً فى الإصرار على اختياراته، ونادراً ما كان يخرج من بيته، حتى لتكاد تشعر أنه «ليس موجوداً»، وأصدقاؤه فى الوسط السينمائى أقلية، هى التى تعرف قدره وتفتتن بوسوسته الإبداعية. وقد زرته فى بيته مرة واحدة أثناء أو بعد الانتهاء من تجربة «جنة الشياطين». سهرت معه فى صحبة منتقاة، وتحدثنا فى السينما (فكراً وتجارب). وأتذكر أننى بذلت جهداً كبيراً لأقترب من ذهنه وأستبطنه وأفك شفرته السينمائية، لكننى بصراحة لم أفهم الكثير. فأسامة مستعصٍ مثل أفلامه، رغم بساطته ونبرة صوته المنخفضة. ورغم عشقى لأفلامه، وإيمانى الطاغى بأسلوبه الفنى، إلا أننى -وأعترف بذلك- لم أتجاسر على التعامل مع تجاربه الأربع، ولم أستطع نقدها، لكننى سجلت بعض الانطباعات عن فيلمى (جنة الشياطين) و(بحب السيما) وقت عرضهما.
كنت وما زلت أقول إن آفة السينما المصرية طوال تاريخها أن «كل» الناس يكتبون ويتحدثون ويتجادلون فى «كل» الأفلام، مع أن تجاهل فيلم سيئ موقف نقدى، والتراجع أمام فيلم جميل ومهم أيضاً موقف نقدى. وقد جربت أكثر من مرة أن أبدأ بالكتابة عن فيلم، لكننى سرعان ما كنت أشعر أن تأثيره انتهى بعد صفحة واحدة، وأحياناً بعد فقرة، فأتوقف عن الكتابة وأتركه يتسرب من بين أصابعى. حدث ذلك فى فيلم (آلام المسيح)، إذ لا أتذكر من هذا الفيلم الآن سوى صورة شخص ضعيف، يستسلم لجلاديه بغرابة مذهلة، ويبدو طوال قرابة الساعتين مثل الذبيحة. والحقيقة أننى لم أكن مقتنعاً، فلا هذه صورة المسيح ولا تلك هى السينما. لكن الفيلم أثلج صدور أقباط مصر، إذ لم يجتهد فيما استقروا عليه. غير أن هناك أفلاماً أشعر، على العكس، أن من الأفضل ألا أجرح وقارها أو أحاول فك شفرتها مثل (جنة الشياطين): 85 دقيقة، أى 90 مشهداً، ونحن نتابع ثلاثة شبان أشقياء يعبثون بجثة صديقهم (المسيحى بالمناسبة) وكأنه ما يزال حياً. ما الذى يمكن أن يقال فى جدل الحياة -بنزقها وحسيتها- مع الموت، بما له من قداسة، وما فيه من غموض؟!.
اضطر مخرج «جنة الشياطين» أسامة فوزى، إلى إعادة مشهد تغسيل جثة «طبل» (لعب الدور منتج الفيلم الأول وبطل الفيلمين محمود حميدة). كان أسامة قد استعان فى المرة الأولى بحانوتى حقيقى، وبالبحث عنه فى المرة الثانية تبين أنه مات موتاً حقيقياً، وفى ظنى أن هذه الواقعة الملهمة عمقت لدى طاقم عمل الفيلم رغبتهم فى السخرية من الموت، أو «إغاظته». وبما أن الموت هو الحقيقة الوحيدة «المتخيلة»، كونها مبهمة وليس ثمة خبرات أو تجارب تدل عليها، وبما أن «الجثة» هنا تحيل إلى الموت وتدل عليه من دون أن يعنى ذلك أنها تفسره.. فقد اختار مؤلف الفيلم مصطفى ذكرى، وبالتبعية مخرجه، أن تكون الرغبة فى السخرية من الموت طفولية حيناً، حسية فى أغلب الأحيان. واستبعد الاثنان الدلالة الميثولوجية لكلمتى «جنة» و«شياطين»، لأن تجاورهما ينطوى -وفق هذه الميثولوجيا- على مفارقة مستحيلة، واكتفيا بـ«نسبيتهما»، أى بما تنطوى عليه كل كلمة من دلالة اجتماعية دارجة: «الجنة» حيث يكون المرء حراً، سعيداً فى حياته، والـ«شيطنة» أو الـ«عفرتة» بوصفها شراً طفولياً أو صبيانياً بريئاً.
وفى أشد حالاتها براءة بدت وجوه الشبان الثلاثة مراوغة، تخفى مزيجاً محبباً من العدوانية والاندفاع الحسى، سرعان ما تطفئهما جدية مفتعلة، أى فى غير أوانها. خناقاتهم تنتهى فى العادة بأسرع مما بدأت، ومن دون خسائر، باستثناء بضع زجاجات بيرة فارغة ومقاعد فى خمارة، وكان سبب الخناقة تافهاً (فى تقديرنا نحن بالطبع)، إذ تعثر زبون فى قدمى «طبل» المفرودتين أكثر من اللازم فى باحة الخمارة.. على الرغم من أنهم يتعاملون مع الجثة طوال الوقت بوصفها «دمية» أو «دبدوباً»: يتحدثون إليه، ويشركونه فى مشاكلهم ورهاناتهم وألعابهم الصبيانية، بل ويسقونه بيرة. وعندما كان وطيسهم يحمى ويبادر أحدهم إلى إخراج «قرن الغزال»، كان يكتفى باستعراض مهارته فى فتحها من «نطرة» واحدة، خفيفة، «مهوشاً» الآخر بالتماعة نصلها أمام عينيه.
هذا كل ما استطعت أن أقبض عليه من (جنة الشياطين). لعله أقل كثيراً من قيمة الفيلم، ومن الحالة الوجدانية التى تملكتنى عقب مشاهدته. لكن عزائى أن الخوض فى فيلم جارح فى بساطته، ومقطر إلى هذا الحد، يحتاج إلى «حساسية» لا أملكها. أما (بحب السيما) فقد صاحبت عرضه معركة، أو قل «حملة» ضارية شنها بعض الأقباط.. كانت بالنسبة لى «مفتاحاً» للوصول إلى بعض جوهره.
كانت الحملة قد بدأت عقب اقتراح من الرقابة على المصنفات الفنية بضرورة إشراك رجال دين مسيحيين فى قرار إجازة عرض الفيلم، وأجيز عرضه بالفعل، وبدعم غير محدود من كافة النقاد والمثقفين. غير أن قساً يدعى «مرقص عزيز خليل»، راعى الكنيسة المعلقة، اتهم صانعى الفيلم بازدراء الديانة المسيحية (مع أن المؤلف والمخرج والمنتج مسيحيون)!. ولم يفوت القس فرصة لبث دعايته المضادة عبر الصحف إلا واستغلها. وفى كل مقالاته ومداخلاته كان حريصاً على تأكيد الطابع الشخصى لحملته، وأنه لا يمثل الكنيسة ولا يدعى الحديث باسمها. ثم نقل القس مرقص حربه إلى صفحات الصحف، وسرعان ما بدأت تستقطب مسيحيين آخرين داخل مصر وخارجها. وكان من نتيجة ذلك أن تجاسر مستشار يدعى «نجيب جبرائيل»، الذى شغل منصب رئيس محكمة الأحوال الشخصية، ورفع دعوى قضائية أمام محكمة القاهرة للأمور المستعجلة (اعتبرها البعض عودة إلى دعاوى الحسبة)، طالب فيها بوقف عرض الفيلم.. «كونه يخوض فى قضايا دينية تخص الأقباط الأرثوذكس دون الرجوع إلى الكنيسة».
الضربة الثالثة كانت الأقوى، وكانت دليلاً قاطعاً على أن حملة التحريض بدأت تؤتى ثمارها. فقد تظاهر حشد من المسيحيين فى فناء كاتدرائية العباسية، رافعين لافتات لا تعبر فقط عن رفض الفيلم، بل تطالب بتصفية مخرجه ومؤلفه ومنتجه جسدياً، وإشعال النار -إن أمكن- فى القاعة التى تعرضه، وتؤكد أن أقباط مصر من الآن فصاعداً لن يكونوا «قلة مغلوبة على أمرها»، ولن يسمحوا لكائنٍ من كان أن يتجرأ على عقيدتهم وكنيستهم وشعائرهم.. إلخ.
كل الاحتمالات كانت واردة. لكن الأمر لم يكن يدعو رغم ذلك إلى التشاؤم. فقد أصبح للسينما المصرية أنياب وأظافر بعد أن ظلت لأكثر من مائة عام ناعمة، مسالمة، بلا موقف. وشعرت بالزهو لأن (بحب السيما) أشعل كل هذه الحرائق، ورفعت القبعة لصانعيه، لأن وضع كلمة «السينما» فى عنوان الفيلم واختيارها «بطلاً» لموضوعه، لم يكن يدل فقط على وعى بأهميتها، بل يرقى بها إلى مستوى النقيض لحالة الفاشية التى تسود المجتمع المصرى.
(بحب السيما)، الذى كتبه هانى فوزى (وهو لا يمت للمخرج بأى قرابة) لا يقل عمقاً عن (جنة الشياطين). لقد شددت معظم الكتابات التى تناولت الفيلم، وكذلك شهادة مخرجه، على أنه الأسبق فى تاريخ السينما المصرية من حيث التعامل مع شخصية المسيحى كمواطن عادى، وليس ابناً لأقلية دينية. كانت صورة المسيحى دائماً تقبع فى خلفية الكادر، أو ترفرف مثل طيف. هنا، فى (بحب السيما)، يبدو متورطاً بإرادته فى كل ما يجرى.
أب متزمت عقائدياً، لكنه مضطرب وهش. زوجة مقموعة روحياً وجنسياً واجتماعياً. حماة منفلتة، شتامة. عاشقان يختلسان قبلة أو حضناً ساخناً. جدة عجوز مدفونة بين دفتى كتاب مقدس. وأخيراً.. أفعال فاضحة فى برج الكنيسة، وخناقة بلدى فى حرمها. تلتفت الكاميرا بين الحين والآخر إلى نافذة مفتوحة على كورال كنسى يتغنى بتراتيل مبهمة. وفى قلب هذه الفوضى يتحرك طفل شقى، عنيد، مأخوذ بسحر السينما. يسأل فى كل شىء، ويضع الجميع فى مآزق، وينصب لهم شراكاً، ويستثمر ضعفهم ونقصهم الإنسانى وزلاتهم الصغيرة لصالحه. يبول على رءوسهم ويعطى ظهره لنكباتهم. إنه المعادل المبهج لكل تلك الصرامة المفتعلة، مثلما تبدو السينما بالنسبة لهذا الطفل معادلاً لتلك «الجنة المفتعلة» التى يبشر بها عالم الكبار. هل لهذا السبب فقط اعتُبر (بحب السيما) صادماً وجارحاً؟. ربما. لكن السبب الأهم يأتى من خارج الفيلم. من خارج الجلد الذى أصبح عبر أكثر من نصف قرن سميكاً: الدين دخل فى السياسة، والفقر تحالف مع الكبت، والسينما مغسولة أخلاقياً، والرؤوس محجبة بينما البطون عارية وخاوية، والسلطة تحتضن الفساد وتحتمى فيه. طبقات يركب بعضها بعضاً حتى لم يعد مجدياً أن «تخدش»، بل «تجرح»: «ما بحبكش.. أنا دايماً خايف منك.. نفسى أحبك زى ما تكون أبويا».. هكذا ينفجر «عدلى» (محمود حميدة) فى حوار فاضح مع الله!.