كنت، وما زلت، من المؤمنين بأن ضعف الحياة الحزبية وتراجع دور الأحزاب ليس مبرراً لمهاجمتها واتهامها وحدها بالمسئولية عن الفراغ الحاصل فى المشهد السياسى، كما أن لحظات تاريخية معينة فرضت على الأحزاب التخلى عن دور جوهرى من أدوارها لدعم الدولة الوطنية فى مواجهة أخطار محيطة بها فسجلت بذلك موقفاً وطنياً محترماً.
لكن ذلك كله لا يعنى أبداً أن تتقاعس الأحزاب عن السعى لتنشيط دورها وتفعيل مشاركتها بدوائر القرار وتكتفى بوجود مندوبين لها فى البرلمان، فالمشاركة ليست فقط بالتأييد والدعم وإنما هى أيضاً بالمناقشة والجدل والاعتراض على مواقف أو سياسات بعينها، والمشاركة لا تقتصر على الجدل مع الحكومة فقط وإنما التفاعل مع الناس فى قضاياهم وفى مواجهة المخاطر المحيطة بالدولة، فالعملية المزدوجة ما بين التأييد والاعتراض والوجود الشعبى أساس الحيوية السياسية فى المجتمع ودعم لجذب الاستثمارات والتنمية فالمعارضة جزء جوهرى من عملية دعم وتأييد الدولة.
المشكلة فى الصمت الحزبى التام والغياب الكامل عن الساحة، وتشعر كأن الأحزاب راضية عن ضعفها وتراجعها وسعيدة بحالة الفراغ السياسى الحاصل فى البلاد فتحول بعضها إلى جمعيات أهلية يقوم بأنشطة خيرية واجتماعية، والبعض الآخر إلى أحزاب بيانات عبر الإنترنت.
المؤكد أن الخاسر الأكبر هو الدولة كونها فى احتياج لوجود منظم منتشر فى الأوساط الشعبية داعم لها فى مواجهة كل آليات ومحاولات هدم الدولة الوطنية التى تقوم بها جماعات مختلفة ومتنوعة ولن تجد هذه الجماعات قوة حقيقية فى مواجهتها إلا الأحزاب السياسية ذات الشعبية الحقيقية وليست المصطنعة.
خطورة الفراغ السياسى الحاصل أنه يساعد على خلق كيانات وهمية مزعجة بصوتها العالى، ويتيح المجال واسعاً لتغلغل أفكار التطرف وانتشار جماعات العنف والإرهاب، ويؤثر سلباً على الاستثمار، والدول الحديثة تقلق من حالة الجمود السياسى والتراجع الحزبى ولا تستكين لها ولا تسعد بها.
المستثمرون يحبون التعامل مع دول ذات حكومات قوية، والحكومات القوية تحتاج لمعارضة قوية، والمعارضة القوية تتشكل من أحزاب قوية ومؤثرة، وتصويب مسار العمل الحكومى وتحسين أدائه ومواجهة البيروقراطية والفساد يتطلب منظومة حزبية قوية فاعلة قادرة على تعزيز مفهوم التعددية والثنائية والتنوع.
إذا كانت انتقادات توجه للدولة لتخليها عن دورها فى جانب من جوانب تنشيط الحياة الحزبية فإن ذلك لا يعفى الأحزاب من مسئولية الغياب وحالة الخمول التى أصابتها ومسئوليتها عن المطالبة بتصويب الأولويات وهى الأكثر مسئولية كونها تمثل جماعات الضغط السياسى بالمجتمع والساعية إلى الاستفادة من مبدأ تداول السلطة وحصد أصوات الناخبين.
الفراغ السياسى الحاصل خطر شديد يجب التعامل معه.