حققت الدولة نجاحاً كبيراً للغاية فى هزيمة التنظيمات والعناصر الإرهابية، وعاد الأمن والاستقرار بنسبة عالية إلى شتى ربوع مصر. ومع عودتهما، وبقدوم العام الجديد، تتزايد الآمال فى انتعاش اقتصادى، لكن فيما يبدو فإن الإرهاب ليس هو العقبة الكؤود الوحيدة التى تقف فى طريق تحقيق تلك الآمال، هناك عقبة أخرى أكثر صعوبة وتعقيداً.
السياحة تُعد مجالاً مناسباً لاستكشاف هذه العقبة الكبيرة، فهى صناعة بالغة الحساسية، وعميلها الذى يأتى من خارج «الملعب» يمكنه أن يرى ما يحدث بداخله بصورة أوضح مما نراه.
«أحب مصر التى تعود لآلاف السنين، لكننى لا أطيق مصر اليوم»، هذه الجملة (القاسية) كررها سياح استمع إليهم مراسل «بيزنس إنسايدر»، حسبما ذكر فى مقال له، نُشر قبل أيام قليلة على الموقع الأمريكى الشهير.
فى عنوان المقال ومتنه، يؤكد «هاريسون جاكوب» قناعته بأن مصر يمكن أن تكون أعظم وجهة سياحية فى العالم، لولا بعض المنغصات التى كادت تفسد عليه رحلته. ويشير المراسل الشاب إلى أن تلك المنغصات التى واجهته عانى منها كل من تحدّث إليهم من السياح الأجانب، خلال زيارته التى استمرت شهراً.
كان الكذب هو المحرك الأساسى لمعظم المنغصات التى واجهت جاكوب. وإلى جانب الكذب كان يشعر بأن من يتعاملون معه يعتبرونه «فرصة» وقعت بين أيديهم يجنون منها الأموال بغير حق.
لم أكتفِ بما كتبه مراسل «بيزنس إنسايدر»، وبحثت فى موقع «تريب أدفايسور» المتخصص فى السياحة لأقرأ بعض التعليقات والمقالات الخاصة بمصر، ووجدت تحذيرات ذات صلة بما ذكره الصحفى الأمريكى.
الخلاصة.. لدينا أزمة أخلاقية!
تذكرت حينها ما كتبه عالم الآثار والمصريات جيمس هنرى برستيد فى كتابه «فجر الضمير» عن مصر التى «ابتكرت» الأخلاق، وشهدت أول ثورة اجتماعية أيقظت الضمير الإنسانى، حسبما كشفت الوثائق الفرعونية والآثار التى برع فى دراستها برستيد.
كيف تشهد مصر بزوغ فجر الضمير ونرى غروبه بين أيدينا اليوم؟ أين تكمن الأزمة؟ ربما تتجلى الإجابة أمام أعيننا إذا عرفنا من أين نستقى مبادئنا الأخلاقية.
إنه الدين.. الدين هو المصدر الوحيد للأخلاق بالنسبة لأغلبنا، لا نتصور أن تكون هناك أخلاق بغير دين، وبما أن الخطاب الدينى يقدم لنا على أنه هو الدين، فنحن نستمد مبادئنا من هذا الخطاب الذى أفرز -إلى جانب المشكلة التى نناقشها- الإرهاب، وربما مشاكل اجتماعية أخرى.
ما الذى ركز عليه الخطاب الدينى خلال العقود الماضية؟ ركز على المرأة، والجنس. ثياب المرأة، وجسدها، وسلوكياتها، وحدود علاقتها بمن حولها، والجنس وكل ما يتعلق به. أمور قدمت إلينا على أنها تحدد مدى انضباط المجتمع أو انحلاله أخلاقياً.
لهذا بات المصريون مستنفَرين ضد كل ما يمثل «انحلالاً أخلاقياً»، حسب الصورة الذهنية التى رُسمت فى عقلنا: ننتفض ضد فستان رانيا يوسف، ونهلل لنخوة المصرى الذى منع علاقة جنسية محرمة تحدث داخل سيارة فى ركن معزول بمجمع سكنى هادئ فى الكويت، ويثور الجيران ويطرقون باب شقة مغلقة على سيدة حين سمعوا أنها تمارس الجنس مع رجلين، فتلقى بنفسها من الدور التاسع فزعاً منهم.
الكذب، والنصب، والاستغلال، والرشوة لم تكن على قائمة أولويات ذلك الخطاب، لذا لن تجد أحداً يحرك ساكناً إذا حدثت هذه الأمور فى عرض الطريق، وأمام جموع المواطنين. نحن اعتدنا كل هذا، قد ننتقده فيما بيننا سراً، أو فى وسائل الإعلام، لكن الجماهير لا تتحرك لوقفه، ولا للإبلاغ عنه، لأننا لم نعتد أن تلك الأمور تمثل انحلالاً أخلاقياً، أو تفسد المجتمع.
السائح الأجنبى الذى جاء من مجتمع لديه قاموس مختلف للأخلاق، يصدمه ما يشاهده عندنا، ويضره مالياً ونفسياً، وينغص عليه رحلته. وهذا قد يفسر لنا، ولو نسبياً، لماذا تحصل دولة مثل مصر، بكل ما تملكه من موارد سياحية نادرة ومتنوعة، على نحو 0.01% من السياحة الدولية (يبلغ عملاؤها قرابة 1.3 مليار سائح كل عام)، وهذه النسبة الضئيلة حدثت مرة واحدة، فى أفضل موسم سياحى شهدناه طوال تاريخنا، وكانت فى العام 2010، أى قبل موجة الاضطرابات السياسية والإرهاب التى واجهناها فى أعقاب ثورة 25 يناير 2011.
التكلفة الاقتصادية للخطاب الدينى تفوق التصور، والسؤال هنا: هل باستطاعة المؤسسات الدينية، وفى مقدمتها الأزهر، أن تنتج خطاباً دينياً يعيد وطننا إلى عهد «فجر الضمير»، يجعلنا نتجاوز ثانى أكبر عقبة تهدد آمالنا، بعد تراجع الإرهاب الذى حاربناه بتكاليف بشرية ومادية ضخمة؟