سافرت إلى الإسكندرية أخيراً، وتصادف أن كانت عودتى ضمن قافلة من سيارات الأصدقاء، الذين ينتمون إلى الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، ويتميزون بمستوى تعليمى وثقافى مرتفع، ومع ذلك فقد لاحظت أنهم يشتركون فى محاولة خداع الرادارات المنتشرة على طريق «القاهرة- الإسكندرية الصحراوى»، عبر رصد أماكنها، وتبادل المعلومات بشأنها، والالتزام بالسرعة المقررة فى نطاقها، ثم تجاوز تلك السرعة لاحقاً حيثما يتأكد لهم أنه لا توجد رقابة عليهم.
ليس لهذا جُعلت الرادارات، ولا يصح أن تكون تلك هى الوسيلة التى يتعامل بها أشخاص مثقفون مع قواعد السير وآدابه.
فى كثير من شوارع وميادين محافظتى القاهرة والجيزة، وضعت إدارة المرور مشكورة ما قالت إنها كاميرات لمراقبة إشارات المرور، وإمعاناً فى التذكير علقت لافتات أيضاً تقول «إن الإشارة مراقبة بالكاميرات»، لكن كثيرين ينتهكون الإشارة، تغولاً وافتئاتاً على القواعد، أو ثقة بإمكانية التحلل من عواقب اختراقها، أو يأساً ولامبالاة.
أحاول الآن أن أتوقع ما فكر فيه المسئول الذى علق هذه العبارة (الإشارة مراقبة بالكاميرات)، وأحاول أيضاً أن أتنبأ بما يشعر به عندما لا يجد القدر الواجب من الامتثال لتحذيراته، فلا أملك سوى أن أتعاطف معه.
من المؤكد أنك رأيت جندى مرور يحاول مرات عدة إيقاف السيارات المسرعة التى تجتهد فى خرق إحدى الإشارات، مستخدماً جسده، بعدما يئس من احترام قائدى المركبات للضوء الأحمر، وبعدما ملّ استخدام يديه فى استعطافهم لكى يحترموا النظام ويتوقفوا من دون جدوى.
فى تلك المساحة التى يمكنك فيها الدوران للخلف، بينما تضع إدارة المرور إشارة واضحة، يقف تحتها جندى معنِى بتفعيلها واحترامها لمنع الدوران بصورة مخالفة، ستجد كثيرين لا يكترثون بالتحذير المكتوب ولا بالرقيب البشرى.
عند هبوط الطائرات فى أى من المطارات المصرية، لا شك أنك سمعت نصائح وإرشادات واستجداء الطواقم للركاب: «رجاء البقاء فى مقاعدكم لحين توقف عجلات الطائرة تماماً»، لكن كثيرين لا يمتثلون، بل يتسابقون على حمل حقائبهم والوقوف فى الممر، معرضين أنفسهم والآخرين للحوادث، قبل أن يتسابقوا فى الركض على السلالم أو فى الأنفاق.
لا شك أنك قرأت كثيراً العبارات المعلقة على المصاعد، التى ترجوك فى إلحاح آلا تكتب على المصعد أو تدخن داخله، ولا شك أيضاً أنك تسليت كثيراً بقراءة عبارات فارغة مكتوبة على جدران المصاعد، معظمها فاقد للياقة والأدب، فضلاً عن رائحة السجائر التى تهيمن بلا حساب.
فى حدائق الحيوان تنتشر عبارات ليس لها مثيل فى أى متنزه عام فى العالم، من نوع: «ممنوع أكل الفسيخ»، و«ممنوع إلقاء الحجارة على الحيوانات»، ويبدو أنهما عبارتان لا تنتصبان إلا لاستجلاب سخرية الرواد وربما إغرائهم بارتكاب المزيد من المخالفات.
مع سوء حال الحمامات فى معظم مرافقنا العامة والمحال والنوادى، ورغم تخصيص صبية وسيدات ورجال للعناية بها على مدار الساعة، لقاء ما يجمعونه من «إكراميات»، ستجد عشرات اللافتات التى تحضك على الاستخدام الحسن لهذا المرفق الحيوى، والتى تشرح لك أدق التفاصيل البديهية عن «شد السيفون» أو «عدم إلقاء المناديل فى المرحاض» وغيرها، ومع ذلك فأحوال النظافة العامة فى تلك الأماكن لا تسير إلا نحو القذارة والفوضى.
لن يمر عليك يوم أثناء سيرك فى أى من شوارع المدن المصرية المكتظة بالسيارات والبشر إلا وستجد لافتة مكتوباً عليها: «جراج خاص.. ممنوع الوقوف»، أو «ممنوع الوقوف منعاً للإحراج»، وأحياناً: «جراج خاص.. من يقف هنا ذنبه على جنبه»، وهكذا حتى تستنفد عبارات الاستجداء والتوجيه والوعد والتهديد.
فى مصالحنا الحكومية ستجد لافتات عديدة للتوجيه، بعضها يختص بمنع التدخين، أو الالتزام بالدور، والوقوف خلف الخط الأصفر، وبعضها يتعلق بضرورة دفع مقابل الخدمة من دون «إكرامية» أو «بقشيش»، لكن أثر هذه العبارات جميعها يتوقف عند جهودها فى تشويه المكان، وإسباغ المزيد من القبح والعشوائية على جدرانه المهترئة.
تنتصب فى شوارعنا لافتات عديدة تحمل عبارات من نوع: «الانتظار صف واحد موازٍ للرصيف»، أو «ممنوع الانتظار»، أو «ممنوع سير النقل»، أو «ممنوع الدوران للخلف»، فيما تنتهك كل قاعدة من تلك القواعد عشرات المرات يومياً على مرأى ومسمع من الجمهور والسلطات.
يبح صوت إمام المسجد عند كل صلاة جمعة، مناشداً ثم متوعداً كل من يصف سيارته فى الساحة المخصصة لاستيعاب المصلين، الذين ضاقت جنبات المسجد بهم، لكن أحداً من أصحاب السيارات لا يكترث، فيبدأ الإمام فى الدعاء عليهم جهراً بسوء المآل.
لم يعد لأدائنا العام أى علاقة باللياقة أو النظام والضبط، ولم تعد التوجيهات والإرشادات واللافتات المعلقة تفلح فى إثنائنا عن الفوضى وانتهاك القواعد، وبين هذا وذاك، سن نفر بيننا قواعد خاصة لحماية ممتلكاته أو الافتئات على الملكية والمصلحة العامة، واستخدم الجميع عبارات التوجيه المُلح، فلم تُجدِ، وبعدها عبارات الزجر والتهديد فلم يُلقِ أحد إليها بالاً.
لا تقوم الحكومة بدورها على الوجه الأمثل لضبط الشارع وصيانة القواعد التى تحكم الحركة فى المساحات العمومية، وثمة الكثير من التقصير الرسمى الذى تتزايد الشواهد عليه يوماً بعد يوم، لكن كل هذا لا يبرر مبالغتنا الغريبة فى محاولة كسر قاعدة تتعلق باحترام المرور أو الاستخدام اللائق لدورات المياه أو المصاعد فى المبانى العامة والخاصة.
ما الذى يجعلنا شغوفين إلى هذا الحد لكسر قاعدة البقاء فى مقاعدنا عند الهبوط فى مطار القاهرة لحين وقوف الطائرة تماماً؟ لماذا نصر (متعلمين وجهلاء، أغنياء وفقراء، رجال ونساء، مؤيدين ومعارضين) على كسر تلك القاعدة؟ ولماذا لا نمتثل إلا حين يزجرنا قائد الطائرة؟ ولماذا لا نفعل ذلك فى المطارات الأخرى؟
هل باتت جلودنا سميكة.. لا تُسَن القاعدة لدينا إلا لانتهاكها والعبث بها، ولا يقوم القانون إلا لافتة تُعلق ومعها الاستجداء والزجر والتهديد، فيما نبحث نحن عن الثغرات والحيل لتجاوزه والعبث به؟
يجب أن نراجع أداءنا فى المساحات العمومية، وأن نتحدث إلى أولادنا عن جدوى النظام وأهمية الالتزام، وأن نتفادى تماماً التصرف أمامهم على هذا النحو المؤسف، فربما يأتى جيل بجلد أقل سماكة.