هالتهم أخبار القصف الإسرائيلى للقاهرة، وشماتة الإسرائيليين فيهم، دب اليأس فى قلب «عنان» ورفاقه وتذكروا أيام قصفهم لتل أبيب، انعكس الأمر، بعد أيام سقطت القنابل المصرية بالقرب من معسكرهم، فتجدّد الأمل فى قلوبهم.
سمح لهم بإرسال واستقبال الرسائل، الخطاب للأسير هو الصلة السرية التى تربطه بوطنه وأهله وداً وحناناً، يعيش مع الخطاب محلقاً فى سماء الخيال وكأنه بين أهله، كانت مساحة الخطاب المسموح به 25 كلمة، الخطابات غير منتظمة، والأسير متشائم بطبعه، فإذا تأخرت الخطابات أصابه القلق على أسرته، وإذا وصلت يلتهمها التهاماً، ويعيد قراءتها مرات، ويحللها بمعانٍ لم تخطر لكاتبها على بال.
أوقفت إسرائيل الخطابات لإصرارهم على كتابة «معسكر الأسرى بفلسطين»، بدلاً من إسرائيل، رفض الأسرى، شكوا للصليب الأحمر، فحسم الأمر لصالحهم، كانت الخطابات تمثل غذاء الروح، أما الطرود التى تحمل الأطعمة والفاكهة فغذاؤهم المادى الذى يشبع بطونهم الخاوية، كان بعضها يُسرق فى الطريق، لكن لا بأس، فالقليل يكفى، جاء لـ«عنان» طرد به شبشب فاخر، تعالت النكات، فاقترح بعضهم أكله بعد قليه فى الزيت، استطاعوا تهريب بعض الطرود دون تفتيش، وصلتهم بعض المجلات المصرية، حوّلوا أخشاب الطرود إلى دواليب، جاءهم مائة طرد من سيدات الهلال الأحمر، وأحياناً من وزارة الحربية المصرية، وجد «عنان» جنوداً بريطانيين مع الطرفين، بعضهم انحاز للعرب وقاتل إلى جوارهم، فأسروا وعذبوا وأهينوا بالضرب والحرمان من الطعام، استطاع ورفاقه مساعدتهم وإمدادهم بالطعام والسجائر تكريماً لموقفهم، وهناك آخرون حاربوا مع الإسرائيليين ثم استغنوا عنهم وأسروهم حتى لا تعاقبهم بريطانيا بتهمة الفرار وتعتبرهم أسرى حرب، وعوملوا معاملة سيئة أيضاً، دخل شهر رمضان عليهم، فأدركوا مواقيته بالتخمين، وكم فاتهم السحور فيه، ليصوموا جائعين، عندما علم المعسكر بصيامهم أكبروا شجاعتهم وروحهم المعنوية العالية، جاءت هدية السماء لهم فى رمضان بالنوم على الأسرة لأول مرة، تبين لـ«عنان» أن السيجارة هى محور الحياة فى السجون، منها تستطيع شراء كل شىء، «وهذا فى السجون حتى اليوم»، فكر «عنان» ورفاقه فى تنظيم برامج للمناظرات والمحاضرات والعلوم والفنون، وكان للأسير الفلسطينى «داوود جبر» الفضل الأكبر فى ذلك، عاشوا فترة سموها «لا حرب ولا سلم ولا تبادل للأسرى»، ترادفت فيها الشائعات مع الأمانى والأحلام، وكلها تبدد كالسراب.
أعدّوا خطة للهروب، استعانوا بطباخ فلسطينى، لكنه كان عميلاً لإسرائيل، قبل التنفيذ جاءت حملة إسرائيلية فتشتهم وهمت بقتلهم، عثروا معهم على خريطة لفلسطين وللمعسكرات حولهم، ضيق عليهم وحوصروا بشدة، أفكار السجناء متطابقة فى كل العصور، وفكرة الخندق فكرة عقيمة «معلومة من السجون بالضرورة»، فكر «عنان» فى طريقة أخرى للهروب، لكنها لم تنجح.
نُقلوا إلى عتليت، هناك جاءهم عدد كبير من الجنود المصريين الأسرى مصابين بطلقات نارية وكسور متفرقة وفى حالة صحية وإنسانية بالغة السوء، عرفوا أنهم أسروا أصحاء ووضعهم الإسرائيليون فى مسجد ثم أطلقوا عليهم النار من نوافذ المسجد، فاستُشهد أغلبهم، وأصيب الباقون الذين تركوا فترة بغير علاج حتى لحق بعضهم بالشهداء، تولى علاجهم طبيب مصرى أسير، لكن دون إمكانيات، حرب 1948 دارت على أربع مراحل «حرب ثم هدنة»، وهكذا، كلما اقترب العرب من النصر، فرضت بريطانيا الهدنة، أعقبها دعم عسكرى وسياسى واقتصادى بريطانى وأوروبى لإسرائيل ثم حرب وهكذا.
جاءت الهدنة الخامسة والأخيرة، ومعها اتفاق على تبادل الأسرى ليعود الأسرى إلى مصر، ويعود قائد الأسراب بطل قصتنا إلى «دموه» بالدقهلية، ليجد استقبالاً أسطورياً للشهيد الحى، من الطريف أن أسلوب «عنان» فى الكتابة لا يقل روعة عن يوسف السباعى ونجيب محفوظ، فتجد فى مذكراته روعة الأسلوب وتدفق المشاعر مع الرجولة والشهامة، سلام على الأبطال فى كل زمان، وسلام على «عنان» حياً أو ميتاً.