بعيداً عن السياسة والاقتصاد والاستراتيجية والقومية العربية والسد العالى وسد إثيوبيا والآخر فى تنزانيا والتمويل للبناء والمناقصات والمزايدات للفوز بفرصة وتحقيق المصالح الخاصة وتحلية مياه البحر وإعادة استخدام غير الصالح منها بعد تنقيته بسبب تعرضنا لفقر مائى أصبح يهددنا فى حياتنا وأصبح العالم كله مهدداً بأن يعانى من نقصه مما دفع إخصائى الموارد المائية لإطلاق كلمة (الشح المائى) عليه وهو ما يعنى الفقر المائى، أى أن تنقص المياه من مصادرها الأساسية لأسباب كثيرة ومختلفة ومتفاوتة بعضها قد يبدو للمتابع درامياً والآخر كوميدياً والثالث من صنع البشر أو ديموجرافى أو بيئى أو بسبب ثقب الأوزون والحقيقة أنه فى الغالب سياسى وعسكرى وحدودى ووثائقى وقد ينشأ بسببه ما يسمى بحرب المياه والتى يتحدث عنها الآن الخبراء الاستراتيجيون. بعيداً عن كل هذا أحدثكم عن أخطر أنواع الشح وهو عنوان هذه المقالة (الشح العاطفى). والشح هو النقص، والشحيح هو البخيل، ويقولون فى قاموس المعانى عن الأيام الشحائح إنها الأيام التى لا مطر فيها، أى التى يتعرض فيها البشر والزرع والأرض وجميع المخلوقات لأشد وأقسى أنواع المعاناة والجفاف والتى تقترب بهم من الموت والعذاب الجسدى والنفسى قبل أن يصلوا إليه وقد تشتعل الغابات وتتحجر الأشجار ويقضى على جميع مظاهر الحياة بسببه. والرجل الشحيح هو البخيل، جامد الكف، وقد أوصى الرسول الكريم فى أحد الأحاديث (لا تكن شحيحاً بعلمك ولا بمالك) والمراد أن لا يكون الإنسان بخيلاً بالمودة والنصح وبالنفقة فى سبيل الله. أما شحيح النظر فهو قليل البصر. وعودة للقلوب أقول إن المتابع للمجتمعات والروابط الأسرية والعلاقات الإنسانية يرى بوضوح أننا على وشك الوصول للفقر والشح العاطفى وأنه لا بد أن نقاوم هذه التغيرات حتى لا نفقد أهم ما نتميز به من صفات. وفى إحدى المقابلات الصحفية حكى أحد الأطباء النفسيين عن حالة أحد الأطفال الذى اصطحبته أمه له بعد أن تعرض للتنمر من معلمته عندما لاحظت أن لديه قدرة كبيرة على العطاء ومنح المحيطين الاهتمام النفسى والدعم والحب حيث اعتاد أن يبدى تأثراً كبيراً إن تعرض أحد زملائه لعقاب أو مشكلة خاصة أو أى أزمة فأطلقت عليه لقب (الحنون) فتأثر كثيراً بتعليقاتها وقد تعجب الطبيب من أن تكون الإنسانية والحب والعطاء والحنان تهمة أو عيباً للتندر وأن يتهم صاحب المشاعر الفياضة ولا يكافأ.
والبخل صفة مذمومة منذ قديم الزمان حيث أبدع (الجاحظ) فى كتابه (البخلاء) وعاشت قصصه بيننا حتى الآن وسط الأعمال التراثية الخالدة. كما كتب الشعراء والروائيون عن البخل والبخلاء الكثير من الأعمال الفنية واشتهر عدد من الشخصيات العامة والفنانين على مستوى العالم بهذه الصفة واتخذها البعض مادة للسخرية. ومن أجمل ما كتبه الشاعر حسين بكرى على صفحته الخاصة حديث وجهته امرأة لحبيبها لتصف معنى الشح العاطفى بكل دقة وتمنحه وصفة مشاعرية رقيقة ليتخلص منه حيث قالت له (قل لى أحبك فى العام مرة لكن تحدث معى فى اليوم مرة وقبلنى فى اليوم مرة وعانقنى فى اليوم مرة واهتم بى فى اليوم مرة وفى كل مرة تفعل فيها هذا البرنامج اليومى دعنى أرى كلمة أحبك فى عيونك)، وفى حديث آخر تقول له (لن أقول لك كم أنت قاسى القلب ومتحجر المشاعر وعديم الرغبة ومتبلد الحس ومرتبك العاطفة ومانع التفكير وخامل الشوق وشحيح اللهفة)، ومن أجمل الكلمات عن الشح العاطفى ما كتبه نزار قبانى وغناه عبدالحليم حافظ عندما قال لحبيبه (إن كنت أعز عليك فخذ بيدى) فى محاولة منه لنفى صفة الشح العاطفى عنه. ولكم أحبائى أقول إن العطاء من أجمل المشاعر وأكثرها أثراً على المحيطين بكم ويكفى أن تلاحظ الفرق بين ملامح وجهك عندما ترى فجأة عزيزاً على قلبك معطاء وإن رأيت آخر شحيح العاطفة فشتان بين الصورتين فالعيون عندما تلمح الأول ترحب والشفاه تتمتم واليد ترحب وتهدهد والسعادة تطلق الضحكات والكلمات وتتغير المشاهد وتتلون بلون الحب فترى الهلال ابتسامة الحبيب والقمر فى تمامه وجهه والسحب وسادات طائرة والمطر دموع الفرح والغروب حضن الحبيب والشروق طلته. أما إذا التقيت بمن يعانى من الشح العاطفى فليمنحك الله القوة والقدرة على احتمال ما ستعانيه جميع حواسك وأدعو الله أن لا تسقط مقاومتك أمامه وتنهمر دموع القهر والحرمان لأن حتى هذه إن رآها لن يعرف ما هى أو لماذا؟