من السمات الأساسية التى يتميز بها خطاب الجماعات المتشدّدة «تجهيل المجموع». فالناس من وجهة نظرهم ليست على شىء إلا أن تتبع أسلوبهم فى التفكير وطريقتهم فى الحياة ومسلكهم فى السلوك. من يسير معهم يفهم ويعى، ومن يشرد يحكمون عليه بالضلال والإضلال. ومنبع هذا النمط من التفكير مرض اسمه «الشعور بامتلاك الحقيقة». فلا يُجهّل المجموع إلا عقل يعتبر نفسه مصدر الحكمة المقطرة وأنه وحده القادر على رسم خرائط الحياة. ولا يجهل قدر المجموع إلا وجدان سقيم لا يؤمن بحق الأفراد فى أن تكون كما تريد وحسابها فى الختام على الله. هذا النمط من الخطاب قد يجد لنفسه مساحة لبعض الوقت، لكن من الصعوبة بمكان أن يدوم كل الوقت، لأنه سرعان ما يشعر المجموع بالضجر من هذا النمط من الأداء، ويجتهد فى فرض إرادته الإنسانية الطبيعية.
خطاب التجهيل ليس مغلقاً على الجماعات المتشدّدة وفقط، فكثيراً ما يتسرب إلى عقل ووجدان غيرهم ممن تعودوا تسفيه المجموع والطعن فى أسلوبه فى التفكير. ولو أنك استرجعت تصريحات المسئولين خلال العقود السابقة، ستجد أن بعضها يقع تحت يافطة «تجهيل المجموع». هذا الأسلوب يؤدى إلى إضعاف مستوى المشاركة فى الإصلاح وإحداث التغيير فى المجتمعات. نجاح الكثير من الخطط التى تتبناها الحكومات مرهون بمستوى وعى الرأى العام بأهدافها ودرجة اقتناعه بها. وكلما قدّمنا للرأى العام خطاباً يحترم عقله ويعى دوره أدى ذلك إلى مستوى أعلى من المشاركة.
العالم اليوم يتحرك فى مجال عام شديد الاختلاف عن عقود سابقة. لم تعد استطلاعات الرأى العام هى العنصر الوحيد الضاغط على صناع القرار أو التجمعات التى تتعامل مع الجمهور، فقد أتاحت وسائل الإعلام والمعلومات الجديدة فرصاً أكبر للرأى العام كى يمارس ضغوطه، وحولته إلى قوة قادرة على إملاء إرادتها. ولعلك تلاحظ أن اهتمام مستخدمى التواصل الاجتماعى بموضوع أو قضية معينة يؤدى إلى تحول فى قيمتها وأسلوب التعامل معها. البعض يسفّه أجندة اهتمامات رواد السوشيال ميديا، والبعض الآخر يستغل هذا الاهتمام ويستفيد منه. ورد الفعل فى الحالتين، سواء تمثل فى الاهتمام أو التسفيه يرتبط بالمصالح. من حق المجموع أن يفكر كما يريد، وأن يحدّد أجندة اهتماماته على النحو الذى يحلو له. وقديماً كان الإمام محمد عبده يردد «إرادة الشعوب من إرادة الله».
لقد ظلت الجماعات المتشددة سنين تتهم الشعوب بالجهل والجهالة والجاهلية فنبذتها الأغلبية. وأنى لأى شعب أن يستجيب لمن يتهمه بهذه التهم؟ وفى المقابل واصلت العديد من الحكومات المتعاقبة فى مصر جهودها من أجل تصحيح أوضاع اجتماعية رأتها معوجة دون أن تحقق النتائج المرجوة. وكان السر فى ذلك الخطاب التجهيلى الذى تعتمد عليه فى توجيه الشعب. حقائق التاريخ تقول إن كل من اتّهم المجموع بالجهل لم يبذل جهداً محسوساً فى توعيته أو تعليمه، لا لشىء إلا لأن أغلب من يوجهون هذه التهمة للشعب يستفيدون من أوضاعه التى يسفهونها أكثر من أى شىء آخر.