استهل النبى (عليه الصلاة والسلام) أعماله بالمدينة، بتحرير عهد وَادَع فيه اليهود، وأقرهم على دينهم، وأموالهم، وهو عهد منشور بنصه فى كتب السيرة، أقر لهم فيه بالنصر والأسوة.
بيد أن اليهود استقبلوا دعوة الإسلام بصدور ضيقة، وأضمروا لها الشر، وبادروها بالكيد والعداوة للقضاء عليها، وهى العداوة التى أنبأ بها القرآن الكريم ولم يحض عليها كما رأينا.
وسلك يهود المدينة، فى البداية، مسلك المجادلات الدينية والمخاصمات الكلامية، وطفقوا يتعنّتون فى الأسئلة لإحراج النبى (عليه الصلاة والسلام)، كما حاول أجدادهم أن يُحرجوا به السيد المسيح (عليه السلام)، وجعلوا يحاولون الدس والوقيعة بين المسلمين، ثم انتقلوا إلى مرحلة أخرى استهدفوا فيها رد المسلمين عن دينهم، واستغلوا تغيير القبلة للتشكيك فى الإسلام، وتلاعبوا بأحكام الله، وحاولوا أكثر من مرة فتنة الرسول (عليه الصلاة والسلام)، وتحالفوا مع المنافقين ومع المشركين ضد المسلمين، وحاربوهم معهم، وآذوا النبى (عليه الصلاة والسلام) بالقول القبيح، وجعلوا يستهزئون بالدين وشعائره، وحاولوا قتل الرسول (عليه الصلاة والسلام).
وجادلوا فيما جادلوا فى نبوة محمد (عليه الصلاة والسلام)، مثلما جادلوا فى نبوة السيد المسيح (عليه السلام)، وجادلوا كما أشرنا فى تحويل القبلة، وجادلوا فيما أحله الله وما حرمه من الأطعمة.
افتعل يهود المدينة لإعضال النبى (عليه الصلاة والسلام) مطالبته بأن يُنزل عليهم كتاباً من السماء، فنزل القرآن الحكيم يُسرّى عن رسوله (عليه الصلاة والسلام)، ويقول له عن قول هؤلاء: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً} (النساء 153).
ونقض «بنو قينقاع» عهدهم بعد غزوة بدر، وهتكوا حرمة عرض امرأة مسلمة بسوق المدينة.
ونقض «بنو النضير» بدورهم عهدهم مع المسلمين، ودبروا لقتل النبى (عليه الصلاة والسلام) بإلقاء حجر عليه غيلة وهو جالس بين ظهرانيهم.
وجاهر هؤلاء بفرحهم وسخريتهم وشماتتهم بعد هزيمة المسلمين فى غزوة أحد التى غزا فيها مشركو قريش المدينة، وأظهروا سرورهم لانتصار المشركين.
ونقض «بنو قريظة» العهد، وتآمروا مع قريش والأحزاب ضد المسلمين فى غزوة الخندق التى حوصرت فيها المدينة، لولا أن كشف الله تآمرهم.
العداوة منهم لا من القرآن
كان هذا ما لاقاه المسلمون من اليهود، وعلى ذلك كان ما ورد بالآية (82) من سورة المائدة مجرد «إنباء» و«إخبار» بما سوف يلقاه المسلمون من عداوة اليهود.
والآيات القرآنية التى نزلت فى اليهود إنما تناولت يهوداً بعينهم وذواتهم فى زمانهم، عن أحداث بعينها، وجرائر ارتكبوها فى حق الإسلام ورسوله مدللة على ذلك بما سبق منهم إزاء أنبيائهم حتى وصفهم السيد المسيح (عليه السلام)، كما ورد فى الإنجيل، بأنهم «قتلة الأنبياء».
العداوة لم تكن من القرآن ولا من الإسلام والمسلمين، وإنما جاءت العداوة من اليهود، فارتكبوا ما ألمحنا إلى بعضه، وتناولته الآيات القرآنية، لا عن موقف عام من اليهود أو اليهودية، وإنما عن حوادث بعينها ارتكبها يهود بعينهم أصاب المسلمين فيها ضررٌ جسيم. وهو هو ما سبق أن صدر عن أسلافهم ضد أنبيائهم.
وبعد..
إذا كانت العيون قد عميت، والقلوب قد جفت وغاضت، فهل ذهبت العقول أيضاً؟!
إن الله فى العهد القديم هو «رب إسرائيل»، وفى القرآن الكريم هو «رب العالمين».
والله فى العهد القديم هو «رب الجنود»، وفى القرآن الكريم هو «الرحمن الرحيم».
وفى العهد القديم «لا تشهد على قريبك شهادة زور، وفى القرآن الكريم {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (الحج 30).
وفى العهد القديم «لا تشتهِ بيت قريبك»، «ولا شىء مما لقريبك»، وفى القرآن الكريم: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} (النساء 32).
وفى العهد القديم «لا تُحَابِ مع المسكين فى دعواه» (الخروج 23: 3)، وفى القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا} (النساء 135).
وفى العهد القديم «اقرض قريبك وساعد قريبك»، وفى القرآن الكريم: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة 2).
وفى العهد القديم «افتح يدك لأخيك المسكين والفقير فى أرضك» (التثنية 15: 11)، وفى القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ فِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (المعارج 24، 25).
وفى العهد القديم «لا تحقد على أبناء شعبك» (اللاويين 19: 18)، وفى القرآن الكريم: {وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر 10).
وفى العهد القديم «تحب قريبك كنفسك» (اللاويين 19: 18)، وفى القرآن الكريم: {وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر 9).
وفى الفضائل العامة، نرى أن النقطة البارزة فى العهد القديم هى «الحاجز العالى» القائم بين الإسرائيلى وغير الإسرائيلى. فأى خير يسديه الإسرائيلى يجب أن يكون مقتصراً على شعبه، وألّا يتعدى وطنه، وفى وطنه لا يشمل الغريب المقيم فيه. فى العهد القديم «للأجنبى تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا» (التثنية 23: 20)، وفيه كذلك «الأجنبى تطالب وأما ما كان لك عند أخيك فتبرئه يدُك منه» (التثنية 15: 3). وفى العهد القديم أيضاً أن العبيد لا يكونون إلّا من الأغيار «وأما عبيدك وإماؤك الذين يكونون لك فمن الشعوب الذين من حولكم... وأيضاً من أبناء المستوطنين النازلين عندكم ومنه تقتنون» (اللاويين 25: 43، 45).
أما القرآن الكريم، فَيُعَلّم أنه خارج الأخوة فى الله توجد أيضاً الأخوة فى آدم فى الإنسانية، وأن اختلاف الأعراق أو اختلاف المشاعر الدينية لا يجوز أن يحول دون الإنسانية والمحبة والتراحم والإحسان.