ابن تيمية أكثر المثيرين للجدل في الماضي والحاضر
صورة أرشيفية
أحد أكثر المثيرين للجدل خلال 1440 عام هي عمر الإسلام، توارث طلاب العلوم الشرعية النصيحة بالابتعاد التام عنه، وبات التحذير من فكره وآراءه المتشددة ومنهجه جزء من العلوم الشرعية، إلى أن خرج تراثه وأثاره من تحت الركام وعاد للحياة من جديد على يد السلفيين المعاصرين وانتشرت آراءه المتشددة التي لطالما تم التحذير منها قبلًا، فقد نشرها المتطرفين وعاد الشيخ ابن تيمية لإثارة الضجة القديمة التي رافقت حياته في منتصف القرن السادس الهجري.
ولد تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام النميري الحراني عام 661 هـ - 728هـ واشتهر باسم "ابن تيمية"، وملئت شهرته الآفاق في وقت مبكر حيث شرع ابن تيمية في التدريس والفتوى والتأليف وهو ابن 17 عامًا، واختلفت الآراء حول ابن تيمية بشكل كبير فما بين مادح جعله غرة الزمان وشيخ الإسلام يقول الحافظ أبو عبدالله بن عبدالهادي (ت744)، "الشيخ الإمام الرباني، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سيد الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر وقريع الدهر، شيخ الإسلام، بركة الأنام، وعلامة الزمان، وترجمان القرآن، عَلَمُ الزهاد، وأوحد العُبَّاد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين "وما بين قادح ذام لفكره وسلوكه ومحذرا منه يقول العز بن جماعة أحد معاصري ابن تيمية " إنَّهُ عَبْدٌ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَخَذَلَهُ نَسْأَلُ اللَّهَ دَوَامَ الْعَافِيَةِ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ ".
وكان الخلاف حول ابن تيمية في حياته ودب حتى بين تلاميذه، فنرى الإمام الذهبي والذي قال في مدحه في تذكرة الحفاظ: "وكان - أي ابن تيمية - من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين والزهاد الأفراد والشجعان الكبار والكرماء الأجواد، أثنى عليه الموافق والمخالف"، وألف الذهبي رسالة في مدح شيخه سماها "الدرة اليتيمة في سيرة ابن تيمية" ثم ما لبث أن انتقل إلى النقيض متهما شيخه في دينه ودنياه بأفحش الاتهامات قائلًا في "زغل العلم" ناصحًا قارئه: "وأحذر التكبر والعجب بعملك، فيا سعادتك إن نجوت منه كفافًا لا عليك ولا لك، فوالله ما رمقت عيني أوسع علمًا ولا أقوى ذكاء من رجل يقال له: ابن تيمية، مع الزهد في المأكل والملبس والنساء، ومع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن، وقد تعبت في وزنه وفتشته حتى مللت في سنين متطاولة، فما وجدت قد أخره بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفروه إلا الكبر والعجب، وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار، فانظر كيف وبال الدعاوي ومحبة الظهور، نسأل الله تعالى المسامحة، فقد قام عليه أناس ليسوا بأورع منه ولا أعلم منه ولا أزهد منه، وما سلطهم الله عليه الا بذنوبه".
وكتب الذهبي لشيخه ابن تيمية رسالة ينصحه فيها بقسوة، قائلا: إلى كم ترى القذاةَ في عين أخيك وتنسى الجذعَ في عينك؟ إلى كم تمدَح نفسك وعباراتكَ، وتذم العُلَماءَ وتتّبع عوراتِ الناس؟ فهل معظم أتباعِك إلاّ قعيدٌ مربوطٌ خفيفُ العَقل، أو عاميٌ كذابٌ بليدُ الذهن... أما آنَ لَكَ أن تَرعوي، أما حانَ لكَ أنْ تتوبَ و تنيب؟.
وتكلم في ابن تيمية العديد من العلماء الثقات الأثبات الذين عاصروه وممن جاءوا بعده فقال المحدث الحافظ الفقيه ولي الدين العراقي ابن شيخ الحفاظ زين الدين العراقي في كتابه الأجوبة المرضية على الأسئلة المكية عنه: "كان علمه أكبر من عقله "، وقال تقي الدين السبكي في الدرة المضية: "أما بعد، فإنه لما أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد، ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد، بعد أن كان مستترا بتبعية الكتاب والسنة، مظهرا أنه داع إلى الحق هاد إلى الجنة، فخرج عن الاتباع إلى الابتداع، وشذ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدس، وأثبت الصفة القديمة حادثة والمخلوق الحادث قديما، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل ولا نحلة من النحل، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاث والسبعين التي افترقت عليها الأمة، وكل ذلك وإن كان كفرا شنيعا مما تقل جملته بالنسبة لما أحدث في الفروع ". لقد وصل الخلاف في ابن تيمية إلى حد التكفير والتضليل.
واستمر الخلاف في ابن تيمية إلى ما بعده فقال فيه الإمام ابن حجر كما نقل عنه صاحب الفتاوى الحديثية: ابْن تَيْمِية عبد خذله الله وأضلَّه وأعماه وأصمه وأذلَّه، وَبِذَلِك صرح الْأَئِمَّة الَّذين بينوا فَسَاد أَحْوَاله وَكذب أَقْوَاله، وَمن أَرَادَ ذَلِك فَعَلَيهِ بمطالعة كَلَام الإِمَام الْمُجْتَهد الْمُتَّفق على إِمَامَته وجلالته وبلوغه مرتبَة الِاجْتِهَاد أبي الْحسن السُّبْكِيّ وَولده التَّاج وَالشَّيْخ الإِمَام الْعِزّ بن جمَاعَة وَأهل عصرهم، وَغَيرهم من الشَّافِعِيَّة والمالكية وَالْحَنَفِيَّة، وَلم يقصر اعتراضه على متأخري الصُّوفِيَّة بل اعْترض على مثل عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُمَا كَمَا يَأْتِي. وَالْحَاصِل أنْ لَا يُقَام لكَلَامه وزن بل يَرْمِي فِي كلّ وَعْر وحَزَن، ويعتقد فِيهِ أَنه مُبْتَدع ضالّ ومُضِّلّ جَاهِل غال عَامله الله بعدله، وأجازنا من مثل طَرِيقَته وعقيدته وَفعله آمين.
وقال في الدرر: افترق الناس فيه – ابن تيمية - شيعا: فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك، ومنهم من ينسبه إلى الزندقة لقوله: إن النبي صلى الله عليه واله وسلم لا يستغاث به.
ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي: إنه كان مخذولا حيثما توجه، وحاول الخلافة مرارا فلم ينلها، وإنه قاتل للرئاسة لا للديانة، ولقوله: إنه كان يحب الرئاسة وإن عثمان كان يحب المال.
ولقوله: علي أسلم صبيا والصبي لا يصح إسلامه، وبكلامه في خطبة بنت أبي جهل فإنه شنع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه واله وسلم: " ولا يبغضك إلا منافق ". ونسبه قوم إلى أنه كان يسعى في الإمامة الكبرى، فإنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه.
وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي محذرا منه: "وإياك أن تصغي إلى ما في كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وغيرهما ممن اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله، وكيف تجاوز هؤلاء الملحدون الحدود وتعدوا الرسوم وخرقوا سياج الشريعة والحقيقة فظنوا بذلك أنهم على هدى من ربهم وليسوا كذلك بل هم على أسوء الضلال وأقبح الخصال وأبلغ المقت والخسران وأنهى الكذب والبهتان فخذل الله متبعه وطهر الأرض من أمثالهم".
ويحكى عن ابن تيمية تلميذه الصفدي في شرحه على لأمية العجم: "كان الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى علمه متسع جداً إلى الغاية وعقله ناقص يورطه في المهالك ويوقعه في المضايق".
وحتى يومنا هذا يستمر الخلاف حول ابن تيمية ما بين مادح وقادح، وداعي لأفكاره ومحذر منها، ليكون بحق أكثر الشخصيات جدلا في التاريخ الإسلامي.