فى عالم الأمومة والطفولة والحب المتفانى والعطاء بلا حدود والتدليل والهزهزة والغناء والتناغم فى النوم واليقظة والإحساس بالجوع أو العطش أو توقع المرض والبكاء بالتبعية والألم المشترك والحاسة السادسة العالية والرضا بما لا يقبله بشر من أجل ضحكة تجلجل أو سندة على الأكتاف أو لمسة ناعمة نعومة الحرير أو حضن صغير الحجم إلا أنه يملك دفء العالم الواسع اللامتناهى أو مشهد لؤلؤة صغيرة تنبت فى الفم الصغير ببريق يخطف القلب ويسعده وينغزه أو حرف يلتصق بحرف ويجر ثالثاً ويضم الأخير لتخرج أول كلمة من هذا الفم الصغير كنداء أو لقب لأول حب وأول رائحة تملأ الأنف وأول لمسة وأول بسمة وأول يد تمسح الجسد كله دون خجل أو ملل وسط هذه العلاقة الفريدة.. يأتى يوم لا بد فيه من اتخاذ قرار الفطام.
وما أقسى تلك اللحظة على قلب أم صغيرة تحرم وليدها من غذائه الذى عرفه لأول مرة وفى أول دقيقة له خارج رحمها.
وقد علمتنى الحياة أن هناك نوعاً آخر من الفطام يعيشه بعضنا فى مراحل عمرية مختلفة ولأسباب مختلفة أيضاً.
وإذا كان فطام الصغير عن ثدى أمه هو أول صدمة يشعر بها فى حياته، فإن الفطام الإرادى غالباً ما يكون هو أقسى صدمة يعيشها الإنسان، وغالباً ما يتخذ القرار ويعيش تلك المعاناة ليحافظ على ما بقى له من أيام أو شهور أو سنوات على وجه هذه الأرض، وربما حفاظاً على كرامة أهدرتها علاقة غير صحية وغير متوازنة، أو آلام سببها شخص فشل من خلال تعامله معه فى ضبط توقيتهما معاً، لوجود فرق كبير فيه، أو اكتشافه أنه ليس من الفرز الأول للبشر ولا حتى من الثانى، فكان لا بد من الابتعاد والانفصال، رغم الألم وقسوة القرار، كما يحدث بين الأم وطفلها فى تلك العملية المعقدة التى تقطع الالتصاق الجسدى بينهما، والتلاقى العاطفى والروحى.
وللإحساس بما تحمل هذه الكلمة، وسط حروفها، من آلام وأحزان ودموع فإن معناها الواضح الصريح يظهر عند القول: «فطم العود» أى قطعه، فالعود الأخضر الملىء بالحب والحياة والنضارة عندما يُفطم فكأنه قُطع عن الحياة.
ويقول الشاعر فى عشقه لوطنه «بلادى لا يزال هواك منى كما كان الهوى قبل الفطام».
أما الأم فتبكى لألم الابن وحرمانه بالفطام الإجبارى، وتقول له «قسوت عليك صغيرى وأبعدتك قسراً عن حضنى، حان وقت فطامك يا بنى فلا تُبكينى، جفف دموعك، إنها تفتت كبدى».
وهى كلمات بسيطة تترجم لنا جميعاً معنى حالة الحرمان التى نتعرض لها بسبب تلك العملية.
ويقول الأطباء النفسيون فى وصاياهم لمن يتعرضون لحالات الفطام الإرادى فى حياتهم إنهم لا بد أن يتدرجوا فى الوصول له فى النهاية، مثلهم مثل الصغير وأمه، وذلك حتى لا يصابوا بصدمة نفسية عنيفة قد تُفقدهم التوازن، ويجب ألا تكون طريقة الفطام مأساوية حتى لا تترك داخل الإنسان ندوباً وجروحاً وذكريات حزينة، كما أنه من المهم البحث عن طريقة لتخفيف حالة الغليان التى تعانى منها القلوب وتؤلمها وتدمرها بعد الفطام.
وإذا كانت الأمثال الشعبية القديمة تقول «لكل طفل كتف يريحه» فإنه من الأولى بنا أن نقول «لكل منا كتف يريحه، وصدر يضمه، ويد تربت عليه وتحدثه بلغة المشاعر والأحاسيس، وتشبعه وتكفيه قسوة الاحتياج». وإذا كانت هناك مقولة «رفقاً بالقوارير» فمن الأجدر والأوضح أن نقول لبعضنا: «رفقاً بالأحبة والأعزاء، وبساكنى القلوب ومالئى العيون بالسعادة والبهجة وراسمى الابتسامة على وجوهنا». وإذا أردنا أن يملأنا الرضا عن الذات والسلام النفسى، فلا بد أن نكون من العادلين فى تلك الحياة.
ولا أعنى بذلك أن ننضم لرجال العدل، ولا أن نعلق أمام أعيننا صورة ميزانه الذى تحمله سيدة معصوبة العينين، فالمطلوب منا فقط أن نعدل فى المنح والعطايا التى نهبها للمحيطين بنا، حتى لا نتعرض للفطام الإرادى.. حفظكم الله من ألمه، وأبعده عنكم وعن محبيكم.