الناس غالباً ما ينقسمون فى مواقفهم تجاه أى ثورة، كذلك كانت الحال بالنسبة لثورة يناير. انقسم الناس فى مواقفهم منها حين قامت، ولا يزال هذا الانقسام متواصلاً بعد ثمانى سنوات مرَّت عليها. المندفعون إلى الثورة كان لديهم تصوُّر عن شكل ومضمون الدولة يتصادم مع شكل ومضمون «دولة مبارك»، فى حين كان المدافعون يرون أن «مبارك» تمكن من تحقيق معادلة استقرار فريدة من نوعها تستوجب التمسك بها.
ثورة يناير تحلقت حول فكرة أساسية تتمثل فى دولة المواطنة، دولة الحقوق والواجبات، دولة القانون، دولة العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، دولة اللاتمييز. هذا الشكل للدولة يكاد يكون حلماً للكثير من المصريين، وأى ثورة تبدأ بحلم كبير، وعندما تنزل من سماء الحلم إلى أرض الواقع فقد تجدها قد حققت جزءاً أو أغلب أهدافها. اختلف الأمر بالنسبة لثورة يناير، وكان السر فى ذلك ركوب الإخوان فوق ظهرها وأصبحت التهمة الكبرى التى توجَّه إلى المشاركين فيها أنهم مكَّنوا الإخوان من الصعود إلى سُدة الحكم. وهذه التهمة -فى جوانب عديدة منها- غير موضوعية. وأصحاب هذا الاتهام يعلمون أكثر من غيرهم أن دولة «مبارك» هى التى مكَّنت للإخوان، وهى التى كانت تتصافق معهم، وهى التى لعبت دوراً فى محاصرة جميع القوى السياسية الأخرى وتركت الساحة فارغة للإخوان لتشكل «المعارضة المستأنسة» لنظام مبارك. الواقفون فى «التحرير» كانوا يهتفون للدولة المدنية وليس لدولة دينية تتناقض مع التركيبة الثقافية المعاصرة للمصريين الذين يحترمون الدين كعلاقة تربط بين العبد وربه ويترتب عليها الارتقاء بسلوك الإنسان. الواقفون فى «التحرير» هتفوا لدستور مدنى ودولة قانون وعدالة وحقوق إنسان. وعندما صعد الإخوان بفكرهم المتناقض مع ثقافة الغالبية من أبناء هذا الشعب كان «الينايرجية» أول مَن خرجوا مطالبين بتنحيتهم عن الحكم. هذه حقائق تاريخية لا يقفز عليها عاقل.
المدافعون عن نظام «مبارك» كانوا يفضلون الاستقرار على ما عداه. وهذا حقهم، وتلك وجهة نظرهم، والاستقرار هو المعادلة الأكثر تفضيلاً من جانب الشعوب. وليس لعاقل أن ينكر قيمته وضرورته للمجتمعات، لكن عندما يصبح الاستقرار أداة لاستمرار أسرة فى حكم دولة جمهورية لا تعرف التوريث فإن الأمر يستوجب إعادة النظر، وعندما يصبح وسيلة لتكريس فكرة احتكار السلطة والثروة والفرص فى إطار مجموعات ثابتة لا تتحول ولا تتغير فإن الأمر يستحق المراجعة. وعندما يغدو مظلة يستتر تحتها الفساد والاستبداد فإن إيثاره على التغيير يثير التعجب.
سيبقى الانقسام حول الثورات سمة أساسية من سماتها. المصريون انقسموا حول ثورة عرابى 1882 وحول ثورة 1919، واتهموا الثورتين بالفشل فى تحقيق أهدافهما. علقوا فى رقبة «عرابى» كارثة الاحتلال الإنجليزى لمصر، واتهموا سعد زغلول بتحقيق استقلال اسمى أو شكلى عن المحتل الإنجليزى. ومع احترامى لرأى مَن يذهب هذا المذهب، إلا أن العائد الأهم لأى ثورة يتعلق بما تُحدثه من تغيير فى فكر الشعوب. وقد فعلت ثورة عرابى وثورة 1919 ذلك، فغيَّرتا الكثير فى فكر المصرين، وهو ما فعلته ثورة يناير.. والتغيير فى الفكر أمر لو تعلمون عظيم.