وحدة الإنسانية، ووحدة الأخوة فيها، معلم أساسى وفريد من معالم الإسلام.. فالناس جميعاً مخلوقون من أصل واحد، جعلهم الله تعالى شعوباً وقبائل ليتعارفوا، لا بالبغى والعدوان، وإنما بالبر والتقوى.
بين العهد القديم.. والقرآن الكريم
ليست هذه هى المرة الأولى، للتربص بالإسلام والتطاول على القرآن الكريم، فهذا التهجم قديم ويتدثر بأثواب متغيرة يسعى مروجوها إلى إثارة الشبهات والإساءة إلى الإسلام.
فى خطاب الله تعالى إلى نبيه محمد:
«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (الأنبياء 107)، فهو عليه الصلاة والسلام رحمة مهداة من رب العالمين، وقد رأينا الحاجز العالى الذى أقامه العهد القديم للتمييز والتفرقة بين الإسرائيلى وغير الإسرائيلى.. ورأينا كيف أن القرآن الكريم أقام إلى جوار الأخوة فى الله أخوة فى الإنسانية، والإذن بالقتال إنما كان للدفاع، رُخّص به للذين أُخرجوا من ديارهم كرهاً بغير حق إلاَّ أن يقولوا ربنا الله، وصادر للذين يقاتَلُون لا إلى الذين يبادئون بقتال.. قال تعالى فى القرآن الكريم: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ» (الحج 39، 40).. وهذا الإذن مشروط بأن يكون للدفاع بلا اعتداء «وَقَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ» (البقرة 190).. وهذا الدفاع مرهون بغايته ومأمور بالكف عنه إذا جنح المعتدون للسلم.. «فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (البقرة 192).. «فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً» (النساء 90).
الحرب فى العهد القديم
حسبنا أن نرجع إلى نصوص العهد القديم، بحصر اللفظ:
- فى الإصحاح الثالث عشر، من سفر العدد، الآيات 26 - 29: «فساروا حتى أتوا موسى وهارون وكل جماعة بنى إسرائيل إلى بَرِيَّة فاران، إلى قادش، وردُّوا إليهما خَبَراً وإلى كل الجماعة، وأروهم ثمر الأرض وأخبروه، وقالوا: قد ذهبنا إلى الأرض التى أرسلتنا إليها، وحقاً إنها تفيض لبناً وعسلاً، وهذا ثمرها. غير أن الشعب الساكن فى الأرض معتز والمدن حصينة عظيمة جداً وأيضاً قد رأينا بنى عَنَاقَ هناك».
- وفى الإصحاح الواحد والعشرين من سفر حزقيال الآيات 1- 5: «وكان إلى كلام الرب قائلاً: يا ابن آدم اجعلْ وجهك نحو أورشليم، وتكلم على المقادس، وتنبأ على أرض إسرائيل. وقُلْ لأرض إسرائيل: هكذا قال الرب هأنذا عليك وأستل سيفى من غمده فأقطع منه الصديق والشرير. من حيث إنى أقطع منك الصديق والشرير. فلذلك يخرج سيفى من غمده على كل بشر من الجنوب إلى الشمال. فيعلم كل بشر أنى أنا الرب. سللت سيفى من غمده لا يرجع أيضاً».
- وجاء فى الإصحاح الثالث والعشرين من سفر يشوع، الآيات 3 - 5: «وأنتم قد رأيتم كل ما عمل الرب إلهكم بجميع أولئك الشعوب من أجلكم. لأن الرب إلهكم هو المحارب عنكم. انظروا: قد قَسَمْتُ لكم بالقرعة هؤلاء الشعوب الباقين ملكاً حسب أسباطكم من الأردن وجميع الشعوب التى قرضتها والبحر العظيم ونحو غروب الشمس والرب إلهكم هو يَنْفيهم من أمامكم ويطردهم من قدامكم فتملكون أرضهم كما كلمكم الرب إلهكم».
- وجاء فى الإصحاح الأول من سفر القضاة الآيتان 8 - 9: «وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوا بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل وسكان الجنوب والسهل».
- وجاء فى الإصحاح الثامن عشر من سفر القضاة، الآيات 27 -30: «وأما هم فقد أخذوا ما صنع ميخاً والكائن الذى كان له وجاءوا إلى لاَيِشْ إلى شعب مستريح مطمئن، وضربوهم بحد السيف وأحرقوا المدينة بالنار. ولم يكن مَنْ ينقذ لأنها بعيدة عن صيدون، ولم يكن لهم أمر مع إنسان وهى فى الوادى الذى لِبَيْت رحوب فَبَنوْا وسكنوا بها. ودعوْا اسم المدينة «دان» باسم دان أبيهم الذى ولد لإسرائيل ولكن اسم المدينة أولا: لاَيِشْ».
- وجاء فى الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر التكوين. الآيات 25 - 29: «فحدث فى اليوم الثالث إذْ كانوا متوجِّعِين أن ابنَىْ يعقوب شِمْعون ولاوى أخوى دينة، أخذ كل واحد منهما سَيْفه وأَتَيا على المدينة بأَمْن وقَتَلا كلَّ ذكر وقَتَلاَ حمور وشكيم ابنه بحد السيف. وأخذا دِينة من بيت شكيم وخرجا. ثم أتى بنو يعقوب على القتلى ونهبوا المدينة، لأنهم نجسوا أختهم. غنمهم وبقرهم وحميرهم وكل ما فى المدينة وما فى الحقل أخذوه. وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما فى البيوت».
- وجاء فى سفر العدد الإصحاح الواحد والعشرون الآيتان 34 - 35: «فقال الرب لموسى: لا تخف منه لأنى قد دفعته إلى يدك مع جميع قومه وأرضه فتفعل به كما فعلت بِسيِحُون ملك الأَمُوريين الساكن فى حَبْشُون. فضربوه وبنيه وجميع قومه حتى لم يبق لهم شارد وملكوا أرضه».
- وجاء فى سفر العدد الإصحاح الخامس والعشرون الآية 16: «ثم كلم الرب موسى قائلاً: ضايقوا المديانيين واضربوهم لأنهم ضايقوكم بمكايدهم التى كادوكم بها».
- وجاء فى سفر العدد الإصحاح الثالث والثلاثون. الآيات 50 - 53: «وكلم الرب موسى فى عَرَبَات موآب على أردن أريحا قائلاً: كلم بنى إسرائيل وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم. تملكون الأرض وتسكنون فيها لأنى قد أعطيتكم الأرض كى تملكوها».
- وجاء فى سفر صموئيل الأول الإصحاح السابع عشر. الآيات 45 - 47: «فقال داود للفلسطينى: أنت تأتى إلىّ بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتى إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عَيّرتهم. يحبِسُك الرب فى يدى فأقتلك وأقطع رأسك وأعطى جثث جيش الفلسطينيين هذا اليوم لطيور السماء وحيوانات الأرض، فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل».
- وجاء فى سفر صموئيل الأول الإصحاح الثالث والعشرون الآية 6: «فذهب داود ورجاله إلى قعيلة وحارب الفلسطينيين وساق مواشيهم وضربهم ضربة عظيمة وخلص داود سكان قَعِيلة».
- وجاء فى سفر المزامير المزمور الثامن عشر. الآيات 35 -41: يسبح داود الرب ويمجده لأنه يعطيه القوة على محاربة أعدائه: «الذى يعلم يدى القتال فَتُحْنى بذراعى قوس من نحاس.. أتبع أعدائى فأدركهم ولا أرجع حتى أفنيهم أسحقهم فلا يستطيعون القيام يسقطون تحت رجلى تمنطقنى بقوة للقتال تصرع تحتى القائمين علىّ وتعطينى أَقْفِيَةَ أعدائى ومبغضى أُفْنيهم يصرخون ولا مخلّص».
ولا يحتاج الباحث المتأمل إلى أى عناء فى استظهار أن القرآن الكريم لم يأت بشىء من العنف الذى أتى به العهد القديم، أو يحض عليه، بل العكس فإن السلام مهجة القرآن، والإسلام منحوت من لفظ السلام، والجهاد لم يشرع فيه بمعنى القتال إلاَّ فى أربعة مواضع يجمع بينها رد البغى والعدوان، والدفاع عن النفس، فى إطار منظومة كاملة تخفف من ويلات الحرب، وتعنى بالنساء والشيوخ والأطفال وبغير المقاتلين، وتنهى عن البغى والعدوان طلباً للعلو فى الأرض، وتكفل حقوق المتحاربين حتى الأسير الذى حارب وقاتل، فأوصى القرآن الكريم برعايته وحسن معاملته ووصف المؤمنين بأنهم الذين يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً (الإنسان 8)، فساوى رعاية الأسير بالمسكين واليتيم، وحض على إطلاق سراحه منّاً أو فداءً، وجعل المن سابقاً على الفداء بقوله تعالى: «فَإِمَّا مَناً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا» (محمد 4).