من القضايا الغائبة التى لم تحظ بعناية خاصة فى الحوار العام حول الدستور الجديد، تلك القضايا المتعلقة بالصحافة والإعلام. وربما كانت الفرحة الأكبر للصحفيين هو ما نص عليه الدستور بشأن حرية إصدار الصحف بالإخطار وعدم جواز حبس الصحفيين فى قضايا النشر ما عدا ما يتعلق بالتمييز والحض على العنف والخوض فى الأعراض، أما القضايا المتعلقة بمستقبل الصحافة والإعلام فى ضوء المواد الثلاث من «211» إلى «213»، التى نظمت هذه الصناعة الكبرى فلم تجد إلا تعليقات عابرة خفيفة المعنى.
يعلم الجميع أن ملف المؤسسات الصحفية القومية هو أحد الملفات القابلة للانفجار بين لحظة وأخرى، فهناك أكثر من 40 ألف صحفى وإدارى وعامل فى المؤسسات الصحفية القومية التى تضم مؤسسات «الأهرام» و«الأخبار» و«الجمهورية» و«دار الهلال» و«دار المعارف» و«روزاليوسف»، والشائع بين أبناء المهنة أن هذه المؤسسات تُقسم إلى فئتين؛ الأولى فئة الشمال الغنية أو المستقرة مالياً واقتصادياً، وفئة الجنوب وهى المؤسسات المتعثرة البائسة. والجامع بين مؤسسات الجنوب هو ارتفاع الديون إلى عنان السماء، وإحدى هذه المؤسسات الصغيرة تزيد ديونها على 2٫5 مليار جنيه، بينما حجم نشاطها السنوى لا يزيد على 45 مليون جنيه. أى أنها بحاجة إلى خمسمائة عام لتغطية هذه الديون فى حال تصوّرنا أن المؤسسة المدينة ستسدد كامل إيرادها السنوى دون أن تستهلك منه شيئاً. ومعظم هذه الديون إما مستحقات للتأمينات الاجتماعية لم تُسدد عبر سنوات طويلة، وضرائب دخل تقاعست المؤسسات عن سدادها لوزارة المالية ويتحمل مسئولية ذلك كل الإدارات السابقة، أو ديون لصالح أفراد أو شركات نتيجة توريد بعض الخامات، أو قروض لبنوك تملكها الحكومة.
والجزء الأكبر من هذه الديون يعود إلى تراكم الفوائد البنكية عبر سنوات وصلت فى بعض الحالات إلى 30 عاماً متصلة، وبينما كان أصل الدين فى إحدى الحالات التى اطلعت عليها فى حدود 23 مليون جنيه فإذا بإجمالى الدين يصل بعد 28 عاماً إلى 1٫8 مليار جنيه تمثل 700 ضعف أصل الدين، وما يقرب من 200 ضعف قيمة إجمالى كل أصول المؤسسة التى تقاعست عن السداد طوال هذه المدة. وفى مثل هذه الحالات يغيب المنطق ويتوقف العقل عن التفكير، إذ كيف ينتظر القائمون على إدارة هذا البنك صاحب الدين كل هذه المدة ويسعدون فقط بإضافة فوائد تراكمية على الورق ويضعون الرقم المتضخم عاماً بعد آخر وهم سعداء للغاية فى الموازنة العامة للبنك التى يصدق عليها البنك المركزى، فى حين يعلم الجميع داخل البنك وخارجه أن هذه الديون بهذا الشكل الجزافى تدخل فى باب الديون المعدومة، وأنها لن تُحصل بأى حال من الأحوال، وحتى إذا امتلك البنك كل أصول المؤسسة المدينة، فسيكون خاسراً ولن يحصل إلا على الفتات الضئيل. ناهيك عن أن البنك لن يستطيع أن يسوى حقوق العاملين فى هذه الأصول الصحفية، ولن يسمح له أحد أصلاً بأن يستولى على هذه الأصول بأى شكل كان.
قصة الديون التى أغرقت مؤسسات صحفية قومية ليست الوحيدة التى تعصف بالكثير من المؤسسات الصحفية المتعثرة، فهناك الهياكل الإدارية غير السوية وغير الكفء، والعاملون الذين لم يحصلوا على حقهم فى التدريب وتنمية مهاراتهم المهنية، والمطابع القديمة المتهالكة التى تعمل بكفاءة لا تزيد على خمسين بالمائة، وإدارات التسويق التى تفتقد إلى التخطيط وفهم السوق واتجاهاتها الأساسية وهى عديمة الخيال والإبداع وتتعامل مع آليات السوق بالفهلوة. أما أسطول النقل لدى مؤسسات الجنوب فهو متهالك ولا يصلح لأى شىء، وبعض المؤسسات تملك عدة سيارات منذ نهاية الستينات أو مطلع السبعينات فى أفضل الأحوال، وحالتها هى البؤس بعينه. والمثير للشفقة أن هذه السيارات تسير بلا رخصة تسيير، فى الوقت نفسه لا تستطيع هذه المؤسسات الذهاب إلى مراكز المرور لترخيص سياراتها، نظراً إلى القرار الصادر من وزير المالية الأسبق بطرس غالى بالحجز على سيارات المؤسسات الصحفية القومية نظير سداد المستحقات المالية عليها، والطريف هنا أننا أمام حكومة تحجز على نفسها بلا خجل، ولم يظهر بعد وزير مالية يفض هذا العبث الحكومى. وبعض المؤسسات الصحفية القومية تتوقف بين الحين والآخر إما لعدم توافر السيولة المالية التى تغطى المرتبات الأساسية للعاملين، وإما لعدم توافر المواد الخام وانعدام قطع الغيار.
هذا غيض من فيض، أو قليل من كثير، ولكنه يجسّد محنة الصحافة القومية، خصوصاً مؤسسات الجنوب. والحق أنه ليس لدىّ علم بأن هناك جهة ما تعكف الآن على دراسة حال هذه المؤسسات فى ظل الدستور الجديد، التى تفرض إنشاء ثلاث مؤسسات ستدير الإعلام العام والمؤسسات الصحفية القومية. فالمادة رقم «212» تنص على إنشاء هيئة وطنية للصحافة تمثل الدولة ستدير المؤسسات القومية وفقاً لمعايير الاستقلالية والمهنية والرشادة الاقتصادية. وبمعنى ما سيكون هناك هيئة عليا تتحكم فى كل أوضاع المؤسسات الصحفية غنيها وفقيرها، وفق أسس الحوكمة والرشادة. وهنا تتجسد المعضلة الكبرى، فالهيئة الجديدة حال إنشائها ستكون بمثابة يد الدولة أو المعبر عنها أو ممثلها فى الحفاظ على هذه المؤسسات الصحفية وترقية عملها وأدائها المهنى والاقتصادى الرشيد. وفى الوقت نفسه لا توجد أى محاولات حقيقية من قِبل الحكومة أو المؤسسات المعنية بالصحافة القومية لإنقاذ هذه المؤسسات وإعدادها اقتصادياً وإدارياً ومهنياً للمرحلة الجديدة.
وأعتقد جازماً أن مسئولية الحفاظ على هذه المؤسسات القومية وتنمية قدراتها هى مسئولية الحكومة القائمة بامتياز. وإذا كانت حكومة «د. الببلاوى» ترى أنها تضع الأساس الاقتصادى والأمنى والاستثمارى لوضع مصر على طريق النهوض والتقدم، فمن اليسير القول إنها تناست تماماً دور الإعلام والصحافة فى استعادة الريادة المعنوية لمصر. لقد تجاهلت الحكومة، خصوصاً وزيرى الاستثمار والمالية ملف المؤسسات الصحفية القومية، وكأن 40 ألف صحفى وعامل لا قيمة لهم، وكأن الصحافة المعبّرة عن روح الدولة ومؤسساتها وشعبها لا قيمة لها، رغم علمنا وعلم الجميع أن بعض وزراء الحكومة الراهنة هم من الذين احترفوا الكتابة فى الصحف القومية لسنوات طويلة.
نداؤنا الأخير والدائم، يا أيتها الحكومة: كفى سياسة «لا أرى لا أسمع لا أتكلم»، ومدى يد العون السريع والشامل لأهم صناعة فى مصر، صناعة الوعى الوطنى والمعرفة الإنسانية.