فى كتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه قصة طريفة يرويها عن الشاعر المخضرم بشار بن برد العقيلى، يقول بن عبدربه: كان رجل يدعى الشعر ويستبرده قومه «يعنى مش طايقينه»، فقال لهم: إنما تستبردوننى من طريق الحسد «يعنى غيرانين منى»، فقالوا: بيننا وبينك بشار العقيلى «أى يفصل بيننا وبينك بشار العقيلى»، وبشار فحل من فحول الشعر والبلاغة وكان يقال عنه: لم يكن فى زمن بشار بالبصرة غزل ولا مغنية ولا نائحة إلا ويروى من شعر بشار، المهم يواصل بن عبدربه الحكاية فيقول: فارتفعوا إليه «أى ذهبوا إلى بشار العقيلى»، فقال بشار للشاعر: أنشدنى، فأنشده. فلما فرغ قال له بشار: إنى لأظنك من أهل بيت النبوة، قال له: وما ذاك؟ بمعنى «مش فاهم تقصد إيه»، فقال له بشار: إن الله تعالى يقول: «وما علمناه الشعر وما ينبغى له»، يعنى ببساطة حضرتك لا علاقة لك بالشعر ما ينبغى لك أن تنشد شعراً، ولم يخبرنا بن عبدربه بمصير هذا الشاعر المدعى الذى كان يرى فى نفسه شاعراً بليغاً ويستبرده قومه ويطالبونه بالكف عن تصديع رؤوسهم بإبداعاته الساذجة، لكنى أعتقد أن هذا الشاعر خلف وراءه آلاف المدعين من سلالته وأن أحفاده يملأون بلادنا الآن وفى شتى المجالات، ففى الفن والثقافة الآن كثيرون «ممن لا ينبغى لهم» الاشتغال بالشعر أو الأدب، ورغم ذلك يتصدرون المشهد الإبداعى ويفرضون أنفسهم كمنظرين يتنقلون فى خفة من ساحة إلى أخرى فيروجون خطاباً ساذجاً ويرسخون الرضا الكامل بالجهل والتطبيع الدائم مع التفاهة، وفى الصحافة والإعلام تنتشر تلك النماذج لتزيف الوعى وتشوه الوجدان وتحفر للقبح مجرى عميقاً فى الذاكرة الجماعية، بل ويزيدون ويزايدون على الجميع فيهينون المهنة ويزدرون قيمها العليا ورسالتها السامية، أما الساحة السياسية فباتت فى كثير من الأحيان فى قبضة مجموعة من «الساسة المتجولين» الذين يحملون بضاعتهم الفاسدة من رصيف إلى آخر ويتنقلون من معسكر لنقيضه، فيغيرون مواقفهم ويبدلون مواقعهم وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، أو يشيعون أنهم يحسنون صنعاً، فيتحول العمل العام بممارساتهم من فرصة لخدمة المجتمع والناس تستحق المنافسة من أجل الحصول عليها إلى غنيمة تستوجب الصراع من أجل الفوز بها، وهؤلاء يعتبرون أن أى انتقاد لهم هو «من طريق الحسد» تماماً كما هو الحال فى مجال العمل الأهلى والمجتمع المدنى هناك الكثير «ممن لا ينبغى لهم» وهؤلاء يشكلون تحالفاً خفياً يفتح لهم أبواب الثراء الحرام من أموال التبرعات والمنح والهبات والتمويل معلوم أو مجهول المصدر، فتستحيل الخدمة العامة بنبل مقاصدها على أياديهم إلى سلم للصعود إلى الهاوية، أما فى المجال الرياضى، الذى بات واحداً من أهم ميادين العبث فى بلادنا، فالأمر لا يحتاج إلى تعليق، فجولة سريعة على حال الأندية فى مصر وما يتبعها من منصات إعلامية وتحالفات اقتصادية وضرب فوق الحزام وتحته تكفينا، ولك إن شئت عزيزى القارئ أن تتجول ببصرك وبصيرتك فى جهة عملك أو فى شارعك والحى الذى تسكن لتكتشف الكثير من تلك النماذج التى إن لم يظهر لها رجل كبشار العقيلى ليقول لها «وما ينبغى لكم» لاستمروا فى ممارساتهم وكأنهم «أبوالعريف»، وعلى المبدعين الحقيقيين فى كل مجال والمخلصين الأوفياء فى كل ساحة أن يتصدوا لتلك النماذج ويشكلون فيما بينهم تحالفاً لمواجهة كل أولئك «الذين لا ينبغى لهم».