كأنه كان قد نجح، قبل فترة، فى عقد اتفاق مسبق معها بأن تؤجل قرارها ولا تبدأ «تمردها» احتجاجاً على سوء أحوال من «يترقبونها» فى كل لحظة، خوفاً من «غدرها» المفاجئ قبل أن يكتمل نقل أغلبهم إلى مساكنهم الجديدة، فلقد سبق لها إعلان «انفصالها الفجائى» ذات صباح قبل ما يقرب من 10 سنوات، وكان «أغلبهم» نياماً، فرحل من رحل، وفُرض على المئات من بقيتهم أسفلها أن يكملوا «حياتهم الأبدية» فى ذات المكان دون أن يكون لهم أى رأى فى ذلك!
فى المرة السابقة كانت كل الألوان قد توحدت فى اللون الأسود، وكان الحزن يشق الصدور، ويُدمى قلوباً شرخها القلق.. وكان الصراخ والعويل هو الصوت السائد فى المكان.. وكانت الدموع تحفر مجرى لها على وجوه الجميع.. وكانت العيون تفتش فى ملامح ذلك المقبل، فربما يكون هو من لم يظهر منذ ذلك الصباح.. وكان الطريق إلى ذلك المبنى الكئيب «مشرحة زينهم» -الذى يبعد عن موقعهم كيلومترات لا تتعدى الخمسة- هو الطريق الوحيد المسموح فيه بالمرور لإنهاء كافة الإجراءات للتعرف على بقايا أشلاء من انتشل رجال الدفاع المدنى «بقاياه»، لتبصم الزوجة بإبهامها على أوراق لتتسلم تصريحاً بـ«دفن بقايا» من كانت تحمل بوجوده لقب «الزوجة» فى البطاقة العائلية، إذ إنها اكتسبت قبل ساعات لقب «أرملة»، لتنظر فى عيون ابنتها التى أصبحت هى الأخرى «يتيمة»!.. فقد فرضت «صخور المقطم» قرارها وأعلنت تمردها وأسقطت كتلاً منها وصل وزن بعضها 500 طن، ليستيقظ سكان الدويقة وقتها على هزة عنيفة تزلزل جدران «العشش والأكشاك الصاج» التى كانت تؤوى أهالى المنطقة، لينتشل رجال الدفاع المدنى 40 جثة و50 مصاباً، وتُدفن عائلات بكاملها تحت الصخور المنهارة، بينما ينجو البعض جرياً فى العراء ويعودون مرة أخرى إلى المكان لتمتد أياديهم لاستخراج بقايا أشلاء أهاليهم.. ليسود مصر فى النهاية إحساس بالإحباط وحالة من الذهول بسبب ما جرى.. ويجتاح الجميع شعور بالدونية والانكسار، بينما يسيطر الفزع مما قد يكون مقبلاً على الأحياء الباقين!
فى يوم الأربعاء الماضى اختلف المشهد تماماً.. بعد أن أعلنت الصخور انتهاء الاتفاق وأعادت تمردها. وعلى الرغم من أن ذات «الهزة» التى جرت كانت هى ذاتها التى حدثت فى سبتمبر من عام 2008، فإنها لم تجد أحداً لتدفنه تحتها من أهالى الدويقة هذه المرة.. فكل ما أحدثته هو تضرر منازل 28 أسرة فقط من بين من كانوا يتزاحمون فى هذا المكان قبل سنوات.. فقد انتهى قبل فترة مشروع «الأسمرات» بمراحله الثلاث، الذى كان الرئيس السيسى -من خلال إحساسه بالمسئولية تجاه أى مواطن يحمل سمرة النيل على ملامح وجهه- قد أصدر توجيهاته المشددة بنقل كافة المواطنين الذين كانوا يقيمون فى المناطق العشوائية الأكثر خطورة، حفاظاً على حياتهم، وتوفير مسكن إنسانى لائق بالمواطنين من خلال مشروع حضارى للقضاء على هذه العشوائيات «التى كانوا يعايروننا بها»، على حد تعبيره فى إحدى خطبه!!
ففى مساء نفس اليوم (الأربعاء) كانت الابتسامة هى السائدة على كافة الوجوه بدلاً من تلك الدموع. وبدأ التهليل والزغاريد تنطلق هناك فى «الأسمرات»، فقد تسلمت «الأسر» مساكنها الجديدة مكتملة الأثاث والأجهزة المنزلية الحديثة التى تكفّل «صندوق تحيا مصر» بكافة تكاليف تجهيزها، دون أن يتحمل أى مواطن جنيهاً واحداً للانتقال إليها..! ولم لا؟!.. فـ«الحياد» تعبير هجرت حروفه الستة قاموس السيسى منذ توليه مسئولية شعب خرج فى 30 يونيو يطالبه بها، فأبدله إلى «الانحياز» لحقوق المواطن، وتعويضه عن المعاناة التى غرق فيها نتيجة الإهمال الذى عانى منه سنوات طوالاً امتدت إلى عقود لم يكن أحد من المسئولين وقتها يشعر حتى بوجوده.. ليصبح «الانحياز» لرد اعتبار المواطن البسيط الذى كان ذبيحاً طوال عمره هو «الأرض المحايدة» الوحيدة التى يقف عليها السيسى..!
فى كارثة 2008 السوداء ظل بقايا أهالى الدويقة الذين نجوا بالصدفة من الكارثة نياماً بصورة مؤقتة فى المخيمات التى سمحت لهم حكومة الدكتور أحمد نظيف، رئيس الوزراء وقتها، بالدخول إليها.. لتتوالى شكاواهم من احتمالات تعرضهم للأمراض الوبائية، نتيجة التلوث البيئى الذى يلف مخيماتهم.. غير أن حلم الانتقال إلى الشقق السكنية ظل يراودهم بعد أن وعدتهم بذلك السيدة سوزان، الملقبة بـ«سيدة مصر الأولى» وقتها.. وفجأة وجد الأهالى أنفسهم مطرودين حتى من خيام الإيواء، بينما لم يبقَ أمامهم سوى «العراء» للإقامة فيه!
لم يكن باقياً أمام الأهالى وقتها سوى أمل وحيد يتعلق باللجنة التى شكلها رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات المستشار جودت الملط، لبحث مشاكل «تسكينهم» فى شقق تقيمها الحكومة لمن يتعرضون لمثل هذه الكوارث، غير أن تقرير اللجنة صدر فى نهاية الأمر مبرزاً التجاوزات فى حق هؤلاء الأهالى فى التسكين، ومُديناً تباطؤ الحكومة فى حلها على الرغم من تلك الوعود التى توالت بسرعة توفير الشقق لهم!
فى تناقض واضح لما جرى فى ذلك الوقت انتقل الأهالى يوم الأربعاء الماضى بكل سهولة إلى شققهم الجديدة فى «الأسمرات» دون أى معاناة بعد أن سبقتهم إليها «المواد التموينية» لإعاشتهم.. ولم تكن هذه «النقلة» مجرد تعويض للمتضررين بتوفير 4 جدران لـ«سترهم» فقط وحمايتهم من صقيع الشتاء القارس، بل نقلة نوعية فى مستوى معيشى لائق لا يقارن بتلك العشش التى أمضوا حياتهم فيها.. فـ«الأسمرات» ليست مجرد وحدات سكنية فقط وشقق، بل مجتمع متكامل بمدارس وحضانات ومستشفيات ووحدات صحية، وملاعب رياضية وساحات انتظار، إضافة إلى وحدات شرطة ومطافى وإسعاف وبريد وأسواق حضارية ومخابز ومركز تدريب وصيانة لخدمة وتأهيل شباب وأهالى المناطق المنقولين إليه.
و«الأسمرات» يتضمن 3 مراحل، تضم الأولى منه 6200 وحدة سكنية مقامة على 65 فداناً، بينما تضم المرحلة الثانية 4000 وحدة مقامة على 61 فداناً، وجرى افتتاحهما قبل 3 أعوام، وتحديداً فى عام 2016.. أما المرحلة الثالثة فهى مصممة لتكون العمارة السكنية بها مكونة من 10 طوابق، وبها 2 مصعد «أسانسير» وشبكة إطفاء، وهى تُعد أكبر مشروع لتسكين العشوائيات، وتتسع لـ7400 أسرة.. الوحدات مجهزة بالكامل، وهناك حضانات وملاعب ووحدات صحية ومسجد وكنيسة لخدمة الأهالى المنقولين إليها..!
نعم.. وعدت ونجحت وأوفيت.. فلك يا سيسى ولأحلى اسم فى الوجود ولجميع أبنائها السلامة دائماً!