الموضوعية هى الفريضة الغائبة فى عالم الإعلام.. وهى الغاية الكبرى والهدف الأسمى الذى لا يمكن إدراكه كاملاً لكننا نسعى جميعاً للاقتراب من حدود الكمال.. والموضوعية فى أحد تعريفاتها فى العلوم هى القيمة التى تُظهِر كيفية ممارسة العلوم وكيفية ابتكار الحقائق العلمية، وهى فكرة تحتم إقصاء التحيزات الشخصية والالتزامات المسبقة والتفاعل العاطفى فى الطريق للوصول للحقائق.
والمثقف هو شخص يعرف شيئاً ما عن معظم الأشياء، بينما المتخصص هو شخص يعرف معظم الأشياء عن شىء ما.. ولا تعارض فى أن يكون أحدهم مثقفاً ومتخصصاً معاً، وهذا مطلوب. ولكن المشكلة تحدث حينما يكون المتخصص غير مثقف، فينحصر تفكيره فى منطقة معينة ويرفض أسر أى فكرة من مجال آخر، أو يرفض تبادل الأسرى مع المتخصصين الآخرين.. البعض يلتبس عليهم الأمر فيما يخص الموضوعية والحياد، فيعيشون وهم الترادف بين المصطلحين، بينما معاملة الحياد والموضوعية كونهما يمثلان المعنى نفسه هى جريمة يعاقب عليها الضمير المهنى. بين المصطلحين تماسات كثيرة، لكنهما ليسا شيئاً واحداً، الحياد لغوياً هو الوقوف على مسافة متساوية من كافة الأطراف وعدم الميل لأحدهما على حساب الآخر، ومعنى الحياد يحمل فى طياته إمكانية المساواة الكاملة بين الضدين! والحياد وسيلة من خمس وسائل لتحقيق «الموضوعية» التى هى أهم غايات العمل الإعلامى.. والوسائل الأربع الأخرى للموضوعية على قدر كبير من الأهمية أيضاً، وهى: الدقة التى تعنى نقل الخبر كما جاء من المصدر، وعدم عمل إضافات عليه أو صبغه بطلاء الرأى.. أما الإنصاف فهو أداة أخرى تعنى عدم إلحاق ضرر بأى ممن تشملهم القصة الخبرية، فالمتهم مثلاً برىء إلى أن تثبت إدانته بحكم قضائى بات ونهائى، وبالتالى ليس من الإنصاف التعامل مع المتهمين إعلامياً بمعزل عن هذه القاعدة.. الأداة الثالثة هى التوازن وتعنى أن يتم عكس الوزن النسبى الصحيح لأطراف الصراع، وهذا تفعله القنوات المعادية طوال الوقت عن عمد بوضع الميليشيا والعصابات المسلحة مع الدول فى كفة واحدة.. الوسيلة الأخيرة هى العمق وتعنى إيراد سياق الخبر وخلفيته، لكى يتسنى للقارئ وضع الأمور فى نصابها الصحيح.. وكلما حققنا الوسائل الخمس بنسبة أكبر حصلنا على درجة أكبر من الموضوعية. وكل ما سبق، سواء وسائل أو غاية، لا بد أن يتحقق فى التغطية الخبرية، أما إعلام الرأى فلا يلزمه تحقيق ذلك. ولهذا فمن قبيل النكتة مكتملة الأركان أن نُطالب وسائل الإعلام الخاصة بأن تكون حيادية فى إبداء رأيها! وهذا عبث، فلكل شخص أجندته الخاصة ولا بد أن ينفذها، ولكن المطلوب منها فقط هو الموضوعية. وغياب الحياد طبيعى ومطلوب (لأن إبداء الرأى يتطلب بالضرورة الانحياز)، لكن الأزمة تحدث حين تختل الوسائل الخمس فتغيب الموضوعية وتتحول الـ«قنوات» إلى «فتوات» تريد خفض «الصوت» وإعلاء «السوط» لفرض الرأى بالقوة.
الحياد والموضوعية ليسا شيئاً واحداً، الأول وسيلة والثانية غاية، الأول عكسه الانحياز والثانية عكسها الذاتية. أرجو عزيزى القارئ أن تقرأ مقالى بموضوعية، وهى تستلزم الحيادية، بينما الحيادية لا تستلزم الموضوعية. فاهمنى ولا لأ؟