إنها حكمة من حكم الحياة، وإرادة من الله، أن يصل الإنسان إلى حالة يشعر فيها بالعجز عن فعل شىء أمام واقع أبطل سعيه وحال بينه وبين تحقيق ما يتأمله، فيعلم ساعتها ألا ملجأ من الله إلا إليه، فيهرول نحو السماء ويناجيها بعجزه أمام ما يمر به من أحوال على الأرض، ويستنصرها فى مواجهة يشعر بعدم قدرته على الاستمرار فيها. ذلك ملخص الدرس البليغ الذى تُعلِّمنا إياه قصةُ نبى الله نوح.
مكث نوح فى قومه ألف سنة إلا خمسين (950 عاماً)، يدعوهم إلى الخروج من مصيدة الشرك بالله ويحذرهم من السقوط فى فخ عبادة الأصنام. كان قومه غرقى فى خطيئة عبادة أجدادهم (وَد وسُواع ويَغُوث ويَعُوق ونَسْر) فصنعوا لهم تماثيل مقدسة ونادوا فيما بينهم بتبجيلهم. لم تكن المسألة مسألة إيمان بهذه الأسماء قدر ما هى استغلال لها من أجل تثبيت أوضاع فاسدة قائمة. يؤكد ذلك تأمُّل الآية الكريمة التى تقول: «وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً». فالواضح أن دعوة نوح إلى التوحيد وعبادة رب السماوات والأرض هزَّت بعضاً من قومه، خصوصاً مَن يشعرون فى أعماقهم أنهم ليسوا على شىء، وأن إيمانهم بهذه الأصنام زائف فأخذوا يستمعون إليه، وبدأت قناعاتهم الخاوية فى الترنح، فما كان إلا أن أخذ مَن حولهم ينادونهم بنداء التمسك بما هم عليه من توقير هذه الأسماء التى جعلوا منها أصناماً، لأن مصلحتهم مرتبطة بالثبات على ما هم عليه. المصلحة أحياناً ما تغلب الإيمان، والمغانم كثيراً ما تعتقل النفس عن الإحساس والعقل عن التفكير.
فى ظل هذا الواقع البائس واصل نوح رحلته فى تصحيح مفاهيم قومه عبر قرون متتالية من الزمن، وكان حصاد الرحلة آحاداً ممن آمنوا به، فى مواجهة طوفان من البشر المحاصرين له. ظلَّ نوح يواصل حتى جاءته الرسالة من السماء بالتوقف: «وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ». لخَّصت الآية الكريمة عجزَ نوحٍ أمام قومه. فى هذه اللحظة كان الإحساس بـ«الغلب» يحتل كل ذرة من ذرات كيان النبى، فتحرك بإيمانه المكين إلى السماء ودعا ربه: «فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ». ناجى نوح السماء بكلمات عبَّر فيها عن عجزه، وأنه مغلوب على أمره أمام قومه. الله تعالى كان عليماً بحاله وحال قومه، كما أنه عليم بكل حال البشر، لكنه دعا الإنسان إلى مناجاته ودعائه. ولا يفوق الدعاء كمؤشر على الإيمان أى مؤشر آخر. وكما أنكر قوم نوح دعوته لهم بالإيمان بالسماء، والتخلى عن المصالح الأرضية لحساب القيم السماوية، فقد جاءهم الرد من السماء: «فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ». جاء طوفان نوح فاكتسح الأرض وغلب أهلها ممن ظنوا أنهم غالبون على أمرهم. ولكن هل تعلَّم «أولاد نوح الجدد» -ممن خرجوا من نسله وتناسلوا من بعده- الدرس؟.. أشُك!.