القضايا الكبرى يمكن أن تضيع أحياناً وسط ركام التفاصيل اليومية التى تتناثر يميناً ويساراً، سواء على مواقع «العجين» الاجتماعى أو خلال مناقشات «آخر الليل» فى المقاهى والبيوت.. أفريقيا واحدة من هذه القضايا الكبرى التى ضاعت لسنوات طويلة، وأدرنا لها ظهورنا لننشغل عنها بتفاصيل «فارغة وتافهة» تحولت اليوم إلى «تريندات» لا تسمن ولا تغنى من جوع.
العاشر من فبراير الجاري، لم يكن يوماً عادياً.. فى ذلك اليوم تسلمت مصر رئاسة الاتحاد الأفريقى لأول مرة منذ تأسيس الاتحاد فى يوليو 2002. الأشقاء الأفارقة الذين جمدوا العضوية المصرية فى 2013، لمدة عام كامل، هم أنفسهم الذين وافقوا بالإجماع على رئاسة مصر للاتحاد فى 2019. هذا التحول الكبير بين عام «التجميد» وعام «الرئاسة» لم يكن «مجاملة» أو «هدية»؛ فالدول لا تهادى بعضها، والمصالح القومية لا تدار بـ«المجاملات». تلك الفترة شهدت جهوداً ضخمة سياسية واقتصادية وعسكرية لاستعادة دور وتأثير ومكانة مصر داخل القارة التى تمثل مجالاً واسعاً للاقتصاد والتنمية، ومجالاً مهماً للأمن القومى، وقبل هذا وذاك مجالاً من مجالات هويتنا وثقافتنا وجذورنا التاريخية التى انقطعت لوقت طويل.
كنت أنتظر أن تصبح أفريقيا «تريند» على صفحات السوشيال ميديا. كنت أنتظر أن تصبح أفريقيا موضوعاً للنقاش المجتمعى على كل المستويات، من أول «فسحة البيت» وصولاً إلى الإعلام والأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى. لكن ذلك لم يحدث!
«فقاعات الوحل والصابون» -التعبير الذى استخدمه الشاعر الراحل نزار قبانى عندما أراد وصف القضايا الشاغلة للشارع العربى- سيطرت على موائد حوارات المصريين الأسبوع الماضى. حضرت «مشاكل الكورة» وغابت أفريقيا!.. حضرت «كوميكسات» المكايدة بين الجماهير وغابت أفريقيا!.. حضرت «الفيديوهات الجنسية» وغابت أفريقيا!
أؤمن بأهمية وأولوية الدور الرسمى، لاسيما فى الملفات التى تمس صميم المصالح القومية للبلاد، ومنها الملف الأفريقى. لكنى أؤمن أيضاً بأن الدور الرسمى مهما كان ناجحاً ومُجيداً لا يمكن أن يكون كافياً وحده. الدول يجب أن تتحرك بأدوات رسمية وأدوات غير رسمية. مصر استعادت أفريقيا رسمياً داخل قاعة نيلسون مانديلا بمقر الاتحاد الأفريقى فى «أديس أبابا» مطلع الأسبوع الماضى، لكنها لم تستعدها بعد على المستوى غير الرسمى، لم تستعدها بعد فى البيوت والشوارع والمقاهى، لم تستعدها بعد فى الثقافة والدراما وشاشات التليفزيون.
الرهان على الدور الرسمى وحده قد يمنحنا فوزاً ثميناً فى أفريقيا اليوم، ثم يكبدنا خسارة جديدة فادحة غداً إذا ظهرت منعطفات مفاجئة لم تكن فى الحسبان. هذا بالضبط ما حدث مع فترة العزلة الأفريقية التى بدأت بتوجه رسمى جديد فى سبعينات «التحولات الطائشة» التى قزّمت دور مصر كعضو رائد فى قارته، ثم تعمقت العزلة فى الثمانينات والتسعينات «البليدة» التى سحبت دور مصر من تلك القارة، ثم وصلت العزلة إلى ذروتها مع «سنوات السيولة الثلاث» بين 2011 إلى 2013 التى أنهت بـ«الضربة القاضية» على ما تبقى من دور مصرى وتبعها قرار بتجميد العضوية!
مصر التى لملمت اليوم جزءاً كبيراً من دورها بمجهود مُضْنٍ لم تعد تحتمل خسارة جديدة. وإذا كانت مصر على مستوى الرئيس والمؤسسات هى «رأس الحربة» فى معارك الأمن القومى. فمصر على مستوى المجتمع بدوائره وأفراده هى «خط الدفاع والتأمين» فى تلك المعارك، وأول ما يجب أن تتسلح به هو «الإدراك» بطبيعة المعركة وأهميتها وأطرافها، وهذا دور مشترك للمدرسة والجامعة والإعلام والدراما والأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى.. بل دور المسجد والكنيسة أيضاً، لأن مصالح البلاد من الفرائض على العباد، فضلاً عن أنها أهم وأنفع من دوامات «الهزل العام» التى تحيط بنا!